يغفل بعض المؤرّخين في البحوث التاريخيّة عن استخراج الفوائد من غير المظانّ، كغفلتهم -مثلاً- عن كُتُبِ البلدان، فلقد صادفتني أثناء قراءة بعضها فوائدُ في خصوص الحوادث المشهورة وأخبار الملوك والدّول، ولو ضُمّت هذه الفوائد المتناثرة إلى ما يجمعه الباحث ويستقصيه في خصوص موضوعٍ مُحدّدٍ لأضاف إليه وأثراه، ومن ذلك -مثلاً- ذكرهم لأطراف أخبار حروب المرتدّين في «نجد» أثناء ذكر أسماء المواضع فيها، حيث يذكرون مصالحة بعض البلدان مع الصحابي خالد بن الوليد رضي الله عنه، أو ضدّ ذلك، فياقوت الحموي ذكر ما يُفيد في هذا الخصوص في «معجم البلدان» عند كلامه على: «أُباض»، و«الأحيسي»، و«الثّقب»، و«الحديقة»، و«السّيوح»، و«الضيق»، و«العرقة»، و«عقرباء»، و«عُلْطَة»، و«الغبراء»، و«الغرور»، و«الفقي»، و«فيشان»، و«القريّة»، و«القصبات»، و«القَلْتَيْن»، و«المجازة»، و«مَحْرَقَة أو مَخْرَفَة»، و«مرأة أو مرات»، و«المصانع»، و«منفوحة»، و«الهدّار»، و«قرّان»، و«سهام»، و«الجواء»، و«رَمّان»، و«ناعِر»، و«أَبْرَق الرَّبَذة»، و«البطاح»، و«بَقْعَاء»، و«رِجَام»، و«الكِرس». و«السِّنح». ونصّ على أن بعض هذه البلدان لم تدخل في صُلح خالد بن الوليد رضي الله عنه مع مُجّاعة بن مرارة الحنفي، وهي الأكثر، مثل: «الكِرس» (4-451)، و«الثّقب» (2-81)، و«السيوح» (3-301)، و«الضيق» (3-465)، و«عرقة» (4-110)، و»الغبراء» (4-185)، و»فيشان» (4-284)، و«القريّة» (4-341)، و»القصبات» (4-353)، و»القَلْتَين» (4-387)، و«مَحْرَقَة» (5-71)، و«المصانع» (5-136)، و«مرات» (5-96). ومُجّاعةُ بنُ مُرارة كان شريفًا في قومه بني حنيفة، ولم يُظهر تصديقَ مسيلمة المتنبّئ الكذّاب، فجُعل في الأسر مُدّةَ الحرب، ولمّا قُتل مُسيلمة؛ صالح مُجّاعةُ خالدًا على بني قومه، فدخلوا في الصُّلح وأسلموا، ومنهم من لم يدخل في الصلح، وهذه التفاصيل لا يقف عليها الباحث في كتاب «الفتوح والردّة» المطبوع لسيف بن عمر، أو «الردّة» للواقدي، أو «الاكتفاء» للكَلاعِي، أو «الغزوات» لابن حبيش. ومن الأمثلة: قولهم عند ذكر «الهدّار»: بها مولد مسيلمة الكذّاب، وفيها تنبّأ، ثمّ خرج منها إلى موضعٍ آخر. «معجم البلدان» (5-394)، وقولهم عن «عُلطة»: هي نقبٌ في اليمامة جازه خالد، فلمّا جازه فقالوا: هذا نقبٌ يحدرنا عن بلاد مسيلمة، فقال: اعلوّطوه، فسُمّي العُلطة. «معجم البلدان» (4-146)، وقولهم: «الأحيسي طلع منه خالد بن الوليد رضي الله عنه على مسيلمة الكذّاب». «معجم البلدان» (1-118)، وحدّدوا من «الأحيسي»: «ثنيّة الغرور» «معجم البلدان» (4-196)، وقولهم عن «الفَقْي»: هو وادٍ في طرف عارض اليمامة من قبل مهب الرياح الشمالية، وقيل: هو لبني العنبر بن عمرو بن تميم نزلوها بعد قتل مسيلمة؛ لأنها خلت من أهلها وكانوا قُتلوا مع مسيلمة، وبها منبر. «معجم البلدان» (4-269)، وقولهم عن زيد بن الخطّاب رضي الله عنه: قُتل في «أُباض»، ذكره البكري في «معجم ما استعجم» (1-94)، و»أُباض» بلدٌ معروف وموضعٌ مشهور، ويذكر الاستاذ عبدالله بن خميس في كتابه «الدرعيّة» ص47، 59، والاستاذ عبد المحسن بن معمّر في كتابه «إمارة العيينة» ص 73: إن «بوضة» في زماننا هي البلدة القديمة أو بالقرب منها، وبالنظر إلى خريطة نشرها الاستاذ عبد المحسن بن معمّر في مُلحقات كتابه ص609؛ نجد أن موضع مقتل الصحابي زيد بن الخطّاب رضي الله عنه بعيدٌ جدًا عن بلدة «الجبيلة» التي اشتهر أن بالقرب منها مقابر الصحابة رضي الله عنهم. ومن فوائد كُتُب البلدان التي وقفت عليها في غير «نجد» وحروب المرتدّين: إني تتبّعت نفوذ الخلفاء العباسيين على بلاد «ما وراء النهر»، و»طبرستان»، و»خراسان»، و»سجستان»، و»فارس» في القرن الثالث والرابع الهجريين، واحتجت إلى جمع أخبار المتغلّبين والخوارج في تلكم الجهات؛ لأَصِلَ إلى تحديد الفترة الزمنيّة لقيام نفوذ خلفاء بني العباس عليها، فرجعت إلى «تجارب الأمم» لابن مسكويه، و»المنتظم» لابن الجوزي، و»الكامل» لابن الأثير، و»تاريخ الإسلام» للذّهبي، لكنّني بعد استقراء الأخبار في كتاب الحموي «معجم البلدان»؛ وقفت على ما لم يذكره غيره، وفرائده كثيرة ومتناثرة، ومنها: إنه ذكر مختصرًا في مُبتدأ أمر يعقوب وعمرو الصفّاريّين ومنتهاه، وهذا المُختصر أنفس ما كُتب في تاريخهم، ولم يستفد منه الباحثون المعاصرون الذين اطّلعت على كتاباتهم عن الصفّاريّين، قال الحموي بعد أن ذكر مختصره فيهم: «وإنّما ذكرت قصّتهم ههنا مع أعراضي عن مثلها؛ لأنّك قلّ ما تجدها في كتاب، ولقد غَبَرَت على مُدّة لا أعرف لابتداء أمرهم خبرًا حتّى وقفت على هذا فكتبته» اه (4-333-334)، والله أعلم وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وسلّم. ** ** ** د. عبدالله بن سعد أباحسين - باحث علمي بمكتب وزير الشؤون الإسلامية [email protected]