لا أعتقد إطلاقًا أنه يوجد شخص متابع ومحب لكرة القدم يختلف معي في أننا وصلنا إلى المرحلة الأكثر سوداوية وسطحية في الطرح أو الحراك الإعلامي الرياضي. منظر لا يصدقه عقل، توارى معه صوت المنطق، وتعالت فيه أصوات المحتقنين وبعض الجهلاء. حتى المتتبع لمقاطع الفيديو التي تختص برياضتنا سيجد أنها ولفترة ليست بالبعيدة كانت وبنسبة كبيرة جدًّا تتعلق بلقطات الأهداف، أو لقطات المهارات الكروية للنجم الفلاني أو النجم الفلاني، أو مسيرة فريق ما في بطولة. أما الآن فستجد السواد الأعظم من هذه المقاطع تحت عنوان: (هوشة الإعلامي فلان والإعلامي علان)، (الإعلامي فلان يفجر جبهة فلان)، (طقطقة الإعلامي فلان على النادي الفلاني). مئات إن لم تكن آلاف من المقاطع لا تجد فيها سوى الصراخ والاتهامات والانتقاص من الآخر.. وسط صمت مطبق من وزارة الثقافة والإعلام التي بدأنا نشك أنها تعلم أي القنوات تنضوي تحت مظلتها، وأيها خارجها؟! هذا التجييش المرعب لعواطف الشباب ومحبي كرة القدم لا نهاية له إلا بفواجع حقيقية، سنراها بأم أعيننا في القريب العاجل. وليجرب كل شخص فينا يملك حسابًا في تويتر أن ينتقد خطأ (حقيقيًّا) لفريق منافس لفريقه؛ ليرى العجب العجاب. فالمراحل المنطقية للاختلاف بالرأي تجاوزناها منذ فترة بعيدة جدًّا. أولى المراحل المنقرضة هي أن يأتيك رد أحد محبي الفريق الذي انتقدته ليقول لك: «أتفق معك». والمرحلة التالية التي انقرضت أيضًا أن يشاهد ذلك المشجع تغريدتك، ويتفق معك في داخله، ويتجاهل الرد عليك. المرحلة الثالثة التي على وشك الانقراض هي أن يرد عليك المشجع بكل أدب واحترام، ويحاول إقناعك بأن ما رأيته خطأ هو بالفعل تصرف صحيح، أو يحاول التبرير بأسباب منطقية، أوقعت ناديه في ذاك الخطأ. الحاصل الآن هو أن أي إجابة تجدها من مشجع الفريق المناسب لا تتعدى الشتم والسباب لك أو لفريقك الذي تميل إليه، بل تتجاوز ذلك للدخول في أمورك الخاصة، والبحث عما يمكن عرضه كفضيحة شخصية لك. بل إن التهديدات الشخصية للمغرد ولأسرته لم تعد منظرًا مستغربًا أو استثناء للقاعدة. هذا المشجع الذي يكاد يتفجر تعصبًا واحتقانًا وكراهية.. ما هو إلا نتيجة طبيعية لوسط رياضي، جعل من الأمثلة السيئة قدوات، وجعل من الكارهين رموزًا يتطلع إليها. فالمشجع المسكين يتابع فريقه لمدة 90 دقيقة فقط في الأسبوع، ولكنه يجد نفسه تحت وابل من النقاشات المسيئة وحوارات الاتهامات المتبادلة لعشرات الساعات خلال الأسبوع نفسه. فما يغذي حبه لفريقه ولكرة القدم أصبح مجرد قطرة في بحر الكراهية الذي يتم إغراقه فيه مع سبق الإصرار والترصد. لم يعد في قنواتنا عقل واعٍ يبحث عن إظهار جماليات كرة القدم، ويعزز ارتباطنا بها. ولم يعد هناك مشرف على برنامج أو مقدم له، يستطيع كبح جماح الانفلات اللفظي والصوتي والأخلاقي إلا بمحاولة عاجزة ضعيفة، لا تتعدى عبارة (عطونا فاصل). والله وحده أعلم بما يقال خلال ذلك الفاصل. الوضع فعلاً خطير، وتحجيمه بعبارة (تراها كورة) أو (لا تعطون الرياضة أكبر من حقها) هو تهرُّب من مسؤولية حقيقية تجاه شباب الوطن الذي يجب أن يجد في المجال الرياضي متنفسًا نظيفًا له، ويجب أن يتعلم منه ولو بطريقة غير مباشرة فن الاختلاف، وتنوع الانتماءات، وأدب الحوار، وتقبُّل المنافسة بروح الفروسية الحقة. لا نريد وسطًا مثاليًّا، لا يُناقَش فيه شيء، ولكننا لا نريد في الوقت ذاته وسطًا يجعل من عشاقه يخجلون من تقديم أنفسهم أمام مجتمعهم بأنهم ينتمون إليه أو يميلون له. تفاصيل وصولنا إلى هذا المستوى المخجل، والاقتراحات التي من الممكن تطبيقها لمحاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه، سنستعرضها سويًّا في الأسبوع المقبل بحول الله وقوته. دمتم بود.