ذات الصوت ينتشر، ذات العبق يضوع، ذات الحنين يشتعل، إنه أذان العيد؛ لا زلت أذكره جيداً فحين يتدفق عبر أوردة الفجر ينتشى النهار، لازال بعض أثره عالقاً في تضاريس الذاكرة، والمساحات الضيقة من الروح. حين ارتفع أذان العيد انتصب الماضي أمامي، واستدار الوقت داخلي، وجفلت السنين عن مواصلة الفرار نحو الغد، ورأيت خريطة الأيَّام مرتبكة وأنا أعبر مدن الأمس أفتش عني في السنين المنكفئة من وعاء العمر ولا أجدني! لم يكن أذان العيد سوى حيلة أنيقة ابتكرها الوقت ليعود بنا للوراء، وكأنه يحاول أن يفتح كوة صغيرة في جدار الأمس للبحث عن الذات الضائعة في كومة السنين المنصرمة. كنت مثخناً بالأسئلة وأنا أطل من تلك الكوة. لماذا نتوه عن ذواتنا حين نعود لها، كيف تختنق ملامحنا وتنمو داخلنا ملامح أخرى لأناس لا نعرفهم، ما الذي يتغير فينا عندما ننضو عباءة السنين، ألم تكن تشبهنا بالأمس ونحن نرتديها ؟ فلماذا تضيق بنا الآن، لماذا لم تعد تسترنا كما كانت تفعل، لماذا لم تعد تتسع لنزقنا، لبكائنا، لأحلامنا، ولبقية الفرح... كيف انحسرت ظلالها شيئاً فشيئا حتى غدت موحشة كأن لم تغن بالأمس؟! ظللت أدحرج الأسئلة أمامي بصمت، وقبل أن أوصد الكوة لمحت نصل الخيبة يحز الدهشة، لم أفزع ربما لأني بدأت أحتمي باليأس ! لكني شعرت بأني ورقة صفراء انتزعت من سفر قديم تساقطت حروفه وبقي غلافه، وبقيت أنا معلقاً في الفراغ أتنفس الحنين والحنق، وصوت الأذان يتصاعد ويعيد تشكيل الأمس على هيئة عبرة تتغشاني ولم استطع التنصل منها لولا أن تداركتني نوبة ابتسام دفعت عني شبهة الحزن.