يستطيع المرء أن يجد أسباباً كثيرة لنقد المشهد الثقافي في بيروت عشيَة معرضها العربي والدولي للكتاب المتزامن هذا العام مع إعلانها عاصمة عالمية للكتاب. ولسوف تنبري أقلام كثيرة لتنكّب أعباء مثل هذا النقد ولن تعوزها الذرائع والفرص، لكن الإنصاف يقتضي أيضاً البحث عن أسباب للأمل وللاحتفاء بهذه المدينة المبدعة على رغم كل ما يعتريها أحياناً من يباب او شحوب. وبيروت مدينة مبدعة ليس فقط بالمعنى الفني أو الأدبي. إنها مبدعة حياة، بل مدهشة في مقدرتها على اجتراح أسباب الحياة ولو من رحم الموت. فما عصف بها من عسف وجور وحروب أثخنت جسدها والروح، كفيل بالقضاء على كل أسباب البقاء الذي لم يكن ممكناً لولا تلك المقدرة العجائبية التي تعيدها كل مرة من حافة القبر الى قلب الحياة، ورأينا كيف تفككت دول كثيرة وانهارت نظم ويبست مدن حين ذاقت أقل بكثير مما ذاقته بيروت من علقم الحروب والمحن. ليست الحرب شماعَة نعلّق عليها كل أوزارنا، لكنها ليست مجرد كلمة عابرة في قاموس المدينة. إنها واقع مرّ تجرعنا جميعاً علقمه وذقنا مرارته وانحفر عميقاً في الوعي والذاكرة والوجدان. ولئن توقفت آلة الحرب العسكرية ذات يوم أو ذات اتفاق فإن آلتها السياسية والإعلامية المتبادلة ظلّت دائرة على الدوام، تهدر في آذاننا وتمنعنا من استعادة وقائع عيش طبيعي وعادي. ألم تصر «العادية» حلماً صعب المنال؟! لكل امرئ من دهره ما تعودا. وعادة بيروت بوصفها كائناً حياً يصارع لأجل البقاء، الانتصار على المأساة والنهوض من خضم الفجيعة والانطلاق مجدداً بين حربين أو أزمتين لتكتب بدمها ودمعها وحبر شهدائها شهادة ميلادها المتجدد. ولئن كان للمدن كما للبشر تواريخ أو أعياد ميلاد، فإن لبيروت أعياد ميلاد كثيرة، لأنها كلما خرجت من الجب كتبت ميلاداً تنتصب شجرته خضراء خضراء. ليس انحيازاً لبيروت، بل إنصافاً لها. خصوصاً أن بعض منتقديها اليوم (ولا أعمم) كانوا ممن نظَّروا للحروب الأهلية وبرروا التذابح الأخوي واستسهلوا الانخراط في التقاتل الداخلي. صحيح، في المدينة أحقاد وضغائن وانقسامات، بل فيها انشطارات عميقة، أفقية وعمودية، وفيها ما يحتاج التئامه الى حبرٍ وملحٍ كثيرين. لا حبر يجمّل الواقع أو يزيفه، بل يدل على مواضع الأمل والخير والجمال والحب والفرح، وهي كثيرة. كثيرة خصوصاً في أوساط الطيبين من الناس المتخاصمين الذين ما كانوا يوماً إلّا وقود حروب يصنعها أناس غير طيبين وغير متخاصمين إطلاقاً! هنا يعلو دور الكتابة ويسمو شأن الكتاب في مدينة ترفع دائماً كتابها بيمينها، حتى لو كان هذا الكتاب يسارياً بمعنى من المعاني، أي بمعنى الفهم الواسع العميق لمعنى اليسار بوصفه انحيازاً للحب والحرية والخير والجمال، لا بالمعنى الأيديولوجي أو الحزبي الضيق. وهل كانت بيروت تصنع فرادتها يوماً إلا من أضدادها: يسار ويمين، انفتاح وانغلاق، حنان وقسوة، حرية واستبداد، غفران وانتقام، تمدّن وتمذهب، الى آخر الأضداد التي يظهر بعضها محاسن بعضه. لا، ليست الحرية في بيروت مسألة شكلية، ولا حياتها مجرّد كلمة في كتاب الحياة. وإلا لماذا مات من مات، وسقط الشهداء على قارعة الحبر والحرية، فهذه المدينة التي كانت أول عاصمة عربية تنتصر على جحافل الاحتلال الاسرائيلي، انتصرت وتنتصر يومياً على جحافل الموت والخراب معلنة انحيازها الأبدي الى كتاب الحياة المفتوح على أفقها الرحب الفسيح الواسع الطري كالمياه، البحري، هيلا هيلا...