أمّا النواحي الدينية والفلسفية، فيرى الكثيرون أن الأفكار التأملية في الشرق القديم وخاصة بلاد الرافدين، مهّدتْ الطريق أمام عدد من المعتقدات والأديان الكبرى. يقول الدكتور طه باقر، في كتابه مُقدّمة في تاريخ الحضارات القديمة: «بقاءُ اليهود في بلاد بابل - بعد السبي البابلي الثاني- تركَ تأثيرات كبيرة في الديانة العبرانية وفي تطوّر معتقداتها، فهذه الديانة بوصفها ديانة مُوحِّدة مع نضج فكرة الوحدانية فيها، إنما نمتْ في أثناء بقاء اليهود في بلاد بابل، كما بدأ فيها جمعُ أسفار التوراة وتدوينها ما بين القرنين الخامس والسادس ق.م، ودُوِّنَ التلمود البابلي في القرنين الخامس والسادس الميلاديين، هذا بالإضافة إلى ما أخذهُ اليهود من آداب حضارة وادي الرافدين ومعارفها وقصصها». ويؤكد عالم السومريات «صموئيل كريمر» على أنه قبل أن يُدوّنَ العبرانيون توراتهم، والإغريق إلياذتهم وأوديستهم بألف عام، نجد في بلاد سومر أدبًا غنيًا ناضجًا يتضمّن الأساطير، والملاحم، والتراتيل والمراثي، والأمثال، والخرافات، والمناظرات.. وينسجم ويتشابه مع كثير ممّا ورد في الأديان والفلسفات اللاحقة. وهناك دراسة ميدانية لفتتْ نظري، فقد وجدَ المنقّبون والآثاريون نقشاً سومريًا على شكل «ختم أسطواني»، يصوّرُ رجلا على رأسه قلنسوة أو قرنين، وامرأة حاسرة الرأس، يجلسان فوق كرسيين متقابلين وبينهما نخلة، وكلاهما يمدُّ يده نحو عذق التمر الذي يُقابلهُ والمتدلّي من النخلة، وتظهر حيّة منتصبة وقوفاً خلف المرأة». وقد تداول الدارسون النقشَ بوصفه إشارة لحكايات الإنسان وخطيئته الأولى، التي تُروى بصور متشابهة في بعض الأديان. كما توجد علاقة وطيدة بين الفلسفة اليونانية القديمة، والفكر التأملي في الحضارات العربية الأقدم، وبالنظر إلى الأسبقية: قرر الكثيرون أن الإغريق استقوا العديد من أفكارهم الأولى من الشرق القديم، وخاصة العربي منه. ولو أخذنا قصيدة الإيطالي دانتي أليغييري الشهيرة ب «الكوميديا الإلهية» لوجدنا فيها الكثير من الرؤى والأفكار الفلسفية والأدبيات المقتبسة من بلاد الرافدين، كموضوع «عالم الأموات السفلي» الذي ورد مُفصّلاً في قصة جلجامش وصديقه أنكيدو.. رغم أن بعض الغربيين يغالطون، فيزعمون أنها مستقاة من أدب وفلسفة اليونان. وهذه الإشكالية نابعة -في نظري- من إشكالية أكبر، وهي رفض غالبهم قناعتنا بأن الإغريق أخذوا واستلهموا الكثير، من الأفكار الرافدية والمصرية والهندية والفارسية القديمة. ولكن بعض الغربيين نبذوا التعصب فنطقوا بالحق، ومنهم عالم السومريات «جان بوتيرو» القائل: «لا أحد يستطيع أن ينكر إلى أي مدى تلقت بلاد الإغريق القديمة من الشرق على جميع الأصعدة، وذلك يعني أنها تلقّتْ أولاً من بلاد الرافدين العظيمة.. أما نحن الغرب فقد بدأتْ حضارتنا من الديانة المسيحية شئنا أم أبينا، ولذا فنحن بهذا الانتساب المزدوج مدينون للسومريين والبابليين الذين يُشكّلون جزءاً من ماضينا الذي إذا أردنا فهمه، والعثور على أسلافنا، وإذا أردنا أن نجري جردًا لأعرق وأعمق جزء من تراثنا.. فعلينا إذن أن نتوجّه إلى سكان بلاد الرافدين القدامى». وبالربط بين ما سبق، أرى أن كثيرًا من المفاهيم العقائدية في الحضارات العربية القديمة، تماثلُ العديدَ من أفكار فلاسفة اليونان القدماء، وتتكرر بأشكال مختلفة في الأديان السماوية، ومن ذلك أن أفلاطون يتفق مع ما ورد عند المشارقة، من أن الخلق بدأ من عدم، وهذا أيضًا ما ينص عليه الإسلام رغم وجود فرق يسير، فديننا الإسلامي الحنيف يخبرننا أن الخلق جاء عن عدم محض، أمّا أفلاطون فحدوث العالم عنده -حسب ما ظهر لي- جاء عن إعادة تشكيل لمادة قديمة، وتختلف المعتقدات السومرية والبابلية والفينيقية؛ ولكن النتيجة متقاربة بين الجميع، وهي أن العالم أو الخلق بدأ من العدم. ولذلك أقول: عززتْ دياناتٌ كثيرة أفكار فلاسفة اليونان وما سبقها من أفكار المشارقة والعرب القدماء، في مسائل كثيرة.. وفي المقابل: أعتقدُ أن فلسفات الإغريق وما سبقها من أفكار الشرق، مهّدتْ الدروب لكثير من الديانات اللاحقة. ومن ذلك التمهيد، أن بعض فلاسفة اليونان اتفقوا مع بعض قدماء المشارقة في تبنّي مذهب الثواب والعقاب الأخرويين، وهذا واضح في بعض حكايات أفلاطون، وفي كثير من الملاحم والكتابات العربية القديمة.. وهذا يتفق - بصورته العامة- مع الأديان السماوية، مع وجود اختلاف في وصف ذلك الحساب وكيفياته.