حين تكون الفاصلة أطول من كل السطور، فلا مجال للنقاط ولا حتى الحروف. إنها الظروف. وكأنها الآن في أغرب حالاتها وأكثرها قسوة على كل شيء، فلم تعد تكتفي بحرمان إِنسان من إِنسان، بل تمادت في حرمان الإِنسان حتى من المدن التي أحبها وتكوّنت له فيها أجمل ذكرياته وأكثرها أهمية وحميمية، كذلك حرمان المدن من ناسها المحببين لديها.. وحلّ محلهم كارهون لها وحاقدون عليها، كما حلّ المحبون بمدن لم يحبّوها ولم يرتاحوا إليها قط! لماذا؟ قلنا: الظروف. ولماذا قلنا الظروف؟ لا أظنّ أحداً يدري تماماً؛ كم حسبناها مجرّد فاصلةْ ولَكم فصلنا بين حاضرنا وماضينا ولكنْ لا فرقَ بين نوازلِ الأقدارِ تحصلُ فجأةً تعكسُ الأشياء فينا وبين نازلةٍ عرفناها قديماً حاصلةْ ولم تعد حتى علامات الترقيم في كتاباتنا، منضبطة كانت أو عشوائية، ذات جدوى.. وربما لم يعد انضباط أي شيء يجدي أكثر من عشوائيته اللا مجدية.. ليس لأن الفوضى هي الطاغية على راهننا المتمكن من كل جهاتنا الآن، بل لأن التنظيمات التي كنا نحترمها ونتمسك بها ونراهن عليها من كل الاتجاهات المحيطة بنا - نحن الإِنسان - باءت بالفشل، وأصبحت وبالاً علينا.. فمتى نتجاوز الفاصلة، إن كان لتجاوزها متى؟ وكيف نتجاوز الفاصلة، إن كان لتجاوزها كيف! قلتُ حينَ القولُ أوشكَ أن يكونْ أضع الفواصلَ أولاً ثم تأتي بينها الكلماتْ لكنْ عرفتُ بأن أحداقَ العيونْ تكونُ مطفأةً إذا ما القلبُ ماتْ ويبقى السؤال المعنويّ، الذي لا علاقة له بتشكيلات الكلمات ولا بأشكال الكلام: متى نتجاوز الفاصلة؟ فكل ما دون الممات فواصل، ونحن لم نزل الأحياء حتى هذه الفاصلة التي توقفنا حولها طويلاً ولا نريد أن ندري لماذا بقدر إرادتنا بتجاوزها قبل انفصالنا عن الحياة؛ هكذا كان المثالُ ولا فواصلَ للمسائلِ إذ يلخّصها السؤالُ اسألْ تعلَّمْ وانتفض برداً أخيراً، ثم قُم واشرب من الكونِ الذي.. حتى العَدَمْ (كنا نصرّحُ بالحقيقيةِ، إنما ما كانَ يكتبها القلَمْ): اشربْ من الثلج المذابِ، ودعهُ يجمدُ فيكَ، حرِّكه اهتماماً، مثلما حرّكتَ في الدنيا يديكَ، تكن عظيماً؛ ثم فاثبتْ.. كلّما ارتعشَ الصَّنمْ.