المراقب للأوضاع في الشرق الأوسط خلال نصف القرن الأخير لا يخطئ النظر في ملاحظة أن نظام الملالي في إيران هو من أشاع التوتر والاحتقان الطائفي، ونثر بذور المذهبية في كافة العواصم العربية، وساعد النظام الطائفي في طهران عملاءه في الداخل العربي على نشر الفرقة بين أبناء الوطن الواحد، حتى اندلعت ثورات الربيع العربي، فكشرت الميليشيات الإرهابية عن أنيابها وعاثت في الأرض فساداً بغية القفز على السلطة في بعض الدول العربية وتحقيق حلم إيران الفارسية في مد نفوذها الإقليمي على جيرانها، ومن ثم التحول إلى قوة إقليمية باطشة، لكن هذه الأحلام التي تراود ملالي طهران دائماً ما تنكسر على صخرة التوحد العربي الذي تقوده المملكة العربية السعودية في مواجهة المشروع الإيراني، وهو أمر بات مطلوباً أكثر من أي وقت مضى. ويرصد المراقبون ومراكز البحث والأجهزة المعنية في الدول العربية والأجنبية أن إيران متورطة في تنفيذ مخططها الطائفي الذي يُراد به زعزعة الاستقرار، وتحريض المواطنين الشيعة من دول الخليج العربية، ضد السلطات في بلدانهم، وفرض الوصاية الإيرانية عليهم وكأنهم من رعاياها وأتباعها، بل وتعدى التغوّل الإيراني في الامتداد إلى الدول العربية الأخرى، وإلى القارة الأفريقية، وإلى الدول الإسلامية في جنوب شرقي آسيا، ووصل التوسع الطائفي الإيراني إلى المجتمعات الإسلامية في دول الاتحاد الأوروبي، فأفسد العلاقات بين الجاليات والأقليات العربية الإسلامية هناك، وأثار بينها الفتنة، حتى يمكن القول إن غالبية الصراعات والأزمات التي يعرفها العالم العربي الإسلامي، هي من تداعيات السياسة غير المسئولة التي تتبعها إيران. استخدام الفتن والحروب الطائفية سياسة إيرانية قديمة افتعلتها الحركة الشعوبية الفارسية في العهود السابقة جاعلة من المذهبية عنصر التزام حزبي لتحقيق غايتها. ومع انتصار الثورة الإيرانية وقيام نظام ما يسمى بالجمهورية الإسلامية، أصبحت سياسة تصدير التشيع الصفوي جزءاً من إستراتيجية نظام الملالي لخلق الفتن الطائفية وشق صفوف المجتمعات العربية والإسلامية متخذاً من شعار التقريب بين المذاهب وسيلة للتغطية على أهدافه الحقيقية التي تضمر العداء والكراهية لأتباع المذاهب الإسلامية. فبعد فشل تحقيق أهدافهم في تصدير ثورتهم عن طريق القوى العسكرية التي أفشلتها تجربة حرب الثمانية سنوات مع العراق، لجأ قادة النظام الإيراني ومرجعيات حوزاتهم الدينية إلى سياسة اعتماد التفرقة الطائفية في البلدان العربية اعتماداً على جعل الحزب المذهبي وسيلة ليسهل عليهم عملية اختراق تلك البلدان ونشر الفتن الطائفية. وهذا ما تأكده حالة الاقتتال الطائفي التي مر بها العراق ويمر بها اليمن اليوم، حيث يدور الاقتتال بين الحكومة وجماعة التمرد الحوثي الذين يتلقون أوامرهم من مرجعيات حوزة قم الإيرانية. وقد كشف الأحداث الأخيرة جليًا عن خطورة المشروع الإيراني في المنطقة العربية القائم على الهيمنة والسيطرة، والتي تسعى إلى تطبيقه وفرضه حيث وضع إستراتيجية جديدة له بعد انتصار الثورة الإيرانية 1979، حيث تقوم تلك الإستراتيجية على ما نص عليه دستور الجمهورية الإيرانية في مادته (154) من الفصل العاشر الخاص بالسياسة الخارجية، والتي تتضمن السعي لتأسيس الحكومة العالمية، والتدخل في شئون الآخرين من خلال تحجيمها بدعم من تطلق عليهم المستضعفين ضد المستكبرين ونصرة الحركات التحررية في أي مكان من العالم. ومن ثم فإن التدخلات الإيرانية في عدد من الدول العربية كما هي الحال في العراقوسورياوالبحرينوالعراق واليمن تهدد أمن واستقرار تلك البلدان. ففي العراق فرض الدور الإيراني نفسه على الساحة العراقية، منذ الاحتلال الأمريكي في عام 2003، ولهذا فإن تنامي الدور الإيراني في العراق لم يتأت من قوة إيران، وإنما نتاج لمتغيرات داخلية وإقليمية ودولية مهدت الطريق لهذا الدور، وهو دور مؤثر في مجريات الأحداث في الساحة العراقية، وسلبي في أكثر أبعاده. ولعل الموقف العراقي الأخير الرافض لحملة «عاصفة الحزم» العسكرية التي تقودها السعودية ضد الحوثيين في اليمن يعتبر تكريساً لها الدور الإيراني الذي لم يكن ليتنامى إلا نتاجاً لتغيرات في موازين القوى الداخلية العراقية، وكذا الإقليمية والدولية في المنطقة. ومن جانب آخر فإن التطورات الحاصلة في العراق تبين أن إيران أصبحت الفاعل الأهم في تقرير واقع ومستقبل العراق، فالأصابع الإيرانية تتغلغل في كل مؤ سسات الحكم والاقتصاد والدفاع والأمن في العراق، وهو ما أكدت عليه كل التقارير الدولية، ولم تعد إيران تجد أي خجل في الإعلان عنه صراحة. وفي اليمن تتضح التحركات العسكرية الإيرانية من خلال دعم الحركات الشيعية والحركات الانفصالية، حتى أصبح اليمن ساحة حرب مشتعلة. وامتد المد الإيراني في اليمن عبر الطائفة الشيعة والتي تمثل الأقلية، ويغلب عليهم المذهب الزيدي، وتقدر نسبتهم بنحو 30% من إجمالي السكان، ورغم ذلك تقود إيران الحرب الدائرة في اليمن عن طريق جماعة أنصار الله الشيعية المعروفة باسم جماعة الحوثيين، التي تخوض بدعم إيران حروباً قوية للسيطرة على العديد من المحافظات. ويرى عدد من المراقبين أن الدعم الإيراني للحوثيين – من أجل تفتيت الوحدة اليمنية - يأخذ أشكالاً متنوعة منها الدعم السياسي على كل المستويات الدولية والإقليمية لتقبل الحوثيين كفاعل رئيس ومهم في اليمن، فضلاً عن الدعم الديني عن طريق حشد وتجنيد الشباب في صفوف الجماعة من مُنطلق مذهبي فمعظم قادة حركة الحوثيين ثم تدريبهم في إيران، هذا بجانب الدعم العسكري الذي تقدّمه إيران من خلال تدريب وتسليح مقاتلي الجماعة بأحدث الأسلحة المتطورة، وهو ما تم الكشف عنه بشكل صريح أخيرًا. ففي تقرير سري لخبراء الأممالمتحدة تم التأكيد على أن إيران تقدم أسلحة إلى المتمردين الحوثيين في اليمن منذ عام 2009 على الأقل، حيث كشف التحقيق الذي أجراه الخبراء، أن السلطات اليمنية عندما اقتادت عام 2013 سفينة جيهان الإيرانية كانت تنقل أسلحة إلى الحوثيين، وذكر التقرير أن الدعم الإيراني العسكري الحالي إلى الحوثيين في اليمن يتسق بشكل لا يمكن التشكيك فيه مع أنماط نقل الأسلحة منذ خمس سنوات وحتى الآن. وإجمالاً فمنذ عام 2012 وإيران تحاول الاستفادة من العوامل المتغيرة في اليمن، ومن ثم فقد قدمت كل التسهيلات لحركة الحوثيين على أمل أن تصبح مثل «حزب الله» في لبنان مجرد أداة في لعبة طهران الإقليمية، وهو ما ورد بالفعل في حديث علي شيرازي ممثل السيد علي خامئني المرشد الأعلى الإيراني لوكالة الصحافة الإيرانية في يير 2015. ومن ثم يعتبر التدخل الإيراني في اليمن ليس وليد اليوم أو المصادفة، ففي محاضرة للرئيس هادي منصور ألقاها بالعاصمة الأمريكية في مركز وودرو ويلسون الدولي وبالتحديد يوم 28 سبتمبر 2012م حيث صرح هادي: «من بين التحديات التي تواجهها اليمن التدخل الإيراني نظرًا لموقعها الإستراتيجي الذي يقع بين دولغنية بالنفط والقرن الأفريقي. وفي السياق نفسه وعلى هامش مؤتمرٍ أمني عُقد في البحرين في ديسمبر 2012م؛ قال الدكتور علي الأحمدي رئيس جهاز الأمن القومي اليمني: «إن إيران انتهزت الفرصة لتوسيع الصراع للعب دور معين وكل ما نطلبه هو عدم التدخل في شئوننا». وفي سوريا لا يحتاج التدخل الإيراني إلى دليل أو برهان، خاصة أن إيران لم تخف دعمها غير المحدود للنظام السوري من خلال المساعدات العسكرية المباشرة أو من خلال حزب الله اللبناني، فكل المعارك الكبرى التي يخوضها النظام السوري الحاكم يوجّهها الحرس الثوري الإيراني، وليس القوات النظامية التي تعاني الآن من خسائر كبيرة على كل المستويات والأصعدة، وهو ما اعترف به الرئيس السوري بشار الأسد أخيرًا حيث أعلن صراحة أن هناك تناقصاً مستمراً في عدد قوات الجيش السوري، وهذا الأمر قد أعطى النفوذ الإيراني مزيداً من التغلغل في الأراضي السورية من خلال تدريب وتجهيز الكوادر الجديدة للجيش السوري بل وإمداد الجيش السوري بقوات من الحرس الثوري خاصة في ظل استمرار قوات النظام في المعاناة من النقص في التدريب والإمكانات بشكل عام. وقد تغلغل التدخل الإيراني في سوريا في الجوانب الاقتصادية، حيث قامت إيران بتقديم مساعدات ومنح وقروض للاقتصاد السوري خاصة في المناطق التى يسيطر عليها النظام الحاكم. كما تغلغل التدخل الإيراني في سوريا بشكل - لافت للنظر - في الجوانب الاقتصادية، حيث قامت إيران بتقديم مساعدات ومنح وقروض للاقتصاد السوري خاصة في المناطق التي يسيطر عليها النظام الحاكم وأصبحت إيران الدولة الأهم في الاقتصاد السوري. أما في لبنان فقد عانت الدولة اللبنانية كثيرًا من التدخلات الإيرانية، خاصة من خلال حركة أمل وحزب الله، حيث أدت هذه التدخلات إلى تجاذبات سياسية بين مكونات المجتمع اللبناني مما تمخض عنه في النهاية الفراغ السياسي منذ مايو من العام الماضي بسبب عدم التوافق حتى الآن على رئيس للجمهورية اللبنانية. ويمكن القول إن التدخلات الإيرانية غير المبررة في الشأن اللبناني أدت إلى انقسام حاد في صفوف الطائفة المارونية التي يحق لها اختيار من يشغل منصب رئيس الجمهورية، وكذلك إلى الانقسام في الصف الوطني الذي يحق له التصديق على من يتم اختياره من خلال المجلس النيابي. وفي البحرين تعود العلاقات البحرينيةالإيرانية إلى بداية القرن السابع عشر عندم احكمت الدولة الصفوية البحرين لفترات متقطعة ابتداء من العام 1601 حتى العام 1783، ومن ثم فقد ظلت إيران تنظر إلى البحرين وكأنها جزء من إمبراطورية إيران، واستمرت هذه النظرة حتى عام 1969 عندما قامت الأممالمتحدة بإجراء استفتاء للشعب البحريني، الذي صوت لاستقلاله عن إيران، وأنهت بريطانيا استعمارها البحرين، وأعلنت البحرين استقلالها في أغسطس 1971، وطوال عقدي الثمانينيات والتسعينيات من القرن المنصرم مرت العلاقات بين البلدين بعواصف عديدة بلغت ذروة التوتر عام 1996 عندما اكتشفت البحرين تنظيماً سرياً باسم حزب الله البحريني بهدف التآمر لقلب نظام الحكم، وأنهم تلقوا تدريبات في طهران. وقد كشفت تصريحات المرشد الإيراني علي خامنئي، التي أشار فيه إلى أن طهران لن تتخلى عن دعم أصدقائها بالمنطقة، وخاصة المعارضة البحرينية، عن حجم تدخلات إيران في مملكة البحرين، وهذا الأمر أثار ردود أفعال بحرينية غاضبة، فوزير الداخلية راشد عبد الله آل خليفة اتهم طهران بفتح معسكرات لتدريب إرهابيين وإيواء مطلوبين لديها، وبتهريب مواد متفجرة وأسلحة وذخائر إلى البحرين. ويمكن القول إن فضح السياسة الطائفية التخريبية التي تنهجها إيران بالكشف عن خفاياها، والتنديد بالمخطط الذي تعمل على تنفيذه في المنطقة العربية، هو من قبيل تأجيج الصراع السني- الشيعي الذي يضر بالمصالح الحيوية للأمة الإسلامية. فالنظام الطائفي في طهران، الذي يمارس سياسة تسعى إلى تمزيق النسيج المجتمعي في الدول العربية، خصوصاً دول الخليج العربي، هو الذي يتحمّل المسؤولية الكاملة في إحداث حالة من الفوضى الهدامة العارمة التي باتت تهدد الأمن والسلم والاستقرار في هذا الجزء من العالم، من العراق إلى سورية، ومن اليمن إلى لبنان، ومن ليبيا إلى سيناء بمصر، ومن تونس إلى الجزائر، حيث أعلن أخيراً عن ضبط محاولات لزعزعة الاستقرار المذهبي في هاتين الدولتين العربيتين من خلال اختراق شيعي للمجتمع المحلي. ويبقى السؤال هنا: لماذا تُمعن إيران في إفساد علاقاتها مع الدول العربية وتصرّ على الإضرار بالأمن والسلم في المنطقة؟. إن الأهداف الشريرة التي تعمل من أجلها إيران تَتَعَارَضُ كلياً مع تعاليم الدين الحنيف، ومع القوانين الدولية، ومع القيم الإنسانية السامية المستمدة من الثقافات والحضارات التي كان للشعب الإراني نصيبٌ في بناء إحداها عبر الأزمنة القديمة. فلو لم تكن إيران حاضرة ومتورطة في الأزمة اليمنية، لما استفحلت هذه الأزمة وطالت حتى استعصت على التسوية السلمية. ولو لم تكن إيران مهيمنة على القرار السيادي في العراق إلى درجة الاحتلال المحض لهذه الدولة العربية، لما تفاقمت الأزمة العراقية، ولما عظم شأن «داعش» حتى احتل ثلث الأراضي العراقية أو يكاد. ولو لم تكن إيران باسطة نفوذها على نظام بشار الأسد متحكمة في القرار السوري، لما خربت سورية ودمرت وهجّرت الملايين من مواطنيها، ولما احتلت روسيا هذه الدولة العربية احتلالاً كاملاً بتواطؤ من الولاياتالمتحدة الأميركية لحسابات غير معلومة حتى الآن. ولو لم تكن إيران صاحبة الأمر والنهي في لبنان من خلال «حزب الله» اللبناني، لما وصلت الأزمة اللبنانية إلى الباب المسدود، وأصبح لبنان الدولة العربية الوحيدة من دون رئيس حتى الآن، إن لم تكن الدولة الوحيدة في العالم أجمع. المساعي الإيرانية لتفتيت دول المنطقة العربية ليست وليدة اليوم، وإنما تعود لقرون طويلة بحيث أصبحت مكونًا طبيعيًا للنخبة الحاكمة الإيرانية، ولذا فإن مبرِّرات القلق العربي من التدخلات الإيرانية مشروعة وحقيقية خاصة أن العقيدةِ الثورية في إيران مُمثِّلةً في مشروعها التوسعي، والنظامُ الإيراني تؤمن بالهيمنة والزعامة والتمدُّد والتفرُّد مما يحتم على البلدان العربية العمل سوياً على إفشال المخطط الإيراني. فإيران عازمة على تنفيذ مخططها تجاه الدول العربية، والذي يتمثل في المقام الأول في تفتيت تلك الدول لإضعافها وصولًا نحو طموحاتها المستحلية نحو تكوين حكومة عالمية، وذلك طبقًا لما هو منصوص عليه في دستور الجمهورية الإيرانية.