أتناول في هذه المقالة الارتباطات التي نشأت في المجتمع والاقتصاد السعوديين لما يمكن تسميته «السياسات الريعية»، وهي السياسات التي انبثقت من صرف أموال النفط في إعانات ومشروعات حكومية كبيرة. ولا شك أن السياسات المذكورة انطلقت من رغبة في رفع مستوى عيش المواطن، وبناء البلاد وتطويرها على وجه السرعة، إلا أن كثيراً من هذه السياسات، كما نبّه إليه البعض في حينه (انظر: «ماذا بعد نضوب البترول»، جريدة الجزيرة، الأربعاء 13 صفر 1402ه - الموافق 9 ديسمبر 1981 - العدد 3384، صفحة 7) لم تفض إلى حلول مستدامة؛ أي لم تؤد إلى حالٍ يكون فيها المستهدفون من الإعانة قادرين على الاستغناء عنها والاستمرار دون تأثرٌ كبير بغيابها، أو تكون فيه الأعمال والصناعات التي قامت على المشروعات الحكومية قادرة على الاستغناء عن هذه المشروعات؛ إضافة إلى ما أفرزته السياسات الريعية من نتائج غير مقصودة أو مرغوبة أو مؤاتية. وفي هذه الأيام التي نسير فيها إلى تحوّلات يتوقع لها أن تؤثر في حياة المواطن ومستوى عيشه، جديرٌ بنا أن ننظر إلى واقعنا الحالي وما ينطوي عليه من ارتباطات كان لسياساتنا الريعية دور في تشكلها، وكذلك ننظر إلى ما قد يكون لهذه الارتباطات من دور في زيادة حدة أثر هذه التحولات على المواطن. هذا لا يعني أنه لا يجب التعامل مع المتغيرات بما يرفع العبء عن موازنة الدول المثقلة ببنود الصرف، ويسمح في توجيه الأموال لما هو أهم من ذلك، ولكنه يعني أنه إضافة إلى أهمية التدرج في هذا الأمر، فيحسن في الوقت ذاته التفكير فيما يمكن عمله لمساعدة المواطن في التكيّف مع هذه التحولات، وكذلك التفكير دائماً في أثر التطبيق غير المتوازن لها. وفي سبيل الإسهام في تسليط الضوء على هذه المسألة المؤثرة، أشيرُ في هذه المقالة إلى بعض النماذج من هذه الارتباطات، مما هو جديرٌ بالتأمل. تلزم الإشارة ابتداءً إلى أنه ليس كل ارتباطات المجتمع السعودي، وخصائصه، التي يحسن أخذها بالاعتبار في رسم البرامج التحولية، هو من إفرازات سياسات ريعية بالضرورة. فعلى سبيل المثال، فإن ارتفاع معدل عدد أفراد الأسرة السعودية قد يكون للسياسات الريعية الماضية دور في تشكله، وقد لا يكون، ولكنه في كل الأحوال من المسائل التي تلزم مراعاتها في هذا السبيل؛ وذلك لأنه مما يحدُ من قدرة الأسرة السعودية على سرعة التكيّف مع التحوّلات المرتقبة، كما قد تستطيعه الأسر الأقل عدداً في البلاد الأخرى، ولأنه من الأمور التي لا يمكن تغييرها، أو تجاوزها، على وجه السرعة. ولعل أبلغ مثال للسياسات الريعية التي سرنا فيها لفترة طويلة من الزمن، ولم نحسن التحول عنها، هي سياسة إعانة زراعة الحبوب، وبخاصة القمح والشعير. فقد بُذِل في هذه الإعانة أموال كثيرة، واستُثمر في الزراعات المعانة أموالٌ خاصة طائلة، ولكن هذا كله لم يؤسس لزراعة مستدامة، وأفضى إلى نتائج غير مرغوبة أو مؤاتية، وهي استهلاك كميات كبيرة من المياه الجوفية التي لا نملك دليلاً على تجددها، كما أدى توقف الإعانة إلى خسارات لمن أغرته الإعانة بالاستثمار في هذه الزراعة ولكنه لحق الركب متأخراً، وأفضى كذلك إلى تحول كثير من المستثمرين إلى زراعات بديلة أكثر استهلاكاً للمياه؛ كزراعة الأعلاف؛ هذا عدا عما ترتب على التأخر في دفع مستحقات المزارعين أثناء بعض مراحل العمل بهذه الإعانات، وما صاحب التراجع عنها وتوقفها، من انعكاسات غير محمودة. وهذا ما يجدر بنا تجنب حدوثه مرة أخرى. ومن الارتباطات التي أحدثتها السياسات الريعية السعودية، ويلزم التعامل معها الآن، هو ذاك المنبثق من إعانات الأعلاف التي أريد منها نفع مربّي المواشي من أهل البادية، فقد أفرزت هذه الإعانات التي لم تُفض إلى حلول مستدامة للمستهدفين منها عدداً من النتائج غير المقصودة، أو المرغوبة أو المؤاتية. فمن كان منا يعرف في البادية قبل بروز إعانات الأعلاف، يعلم أن مواشيها حينذاك كانت في المقام الأول هي الإبل، لا الأغنام. إلا أن إعانات الأعلاف، إضافة إلى عوامل أخرى، شجّعت كثيراً من أبناء البادية على التحول إلى تربية الأغنام بدلاً من الإبل إضافة إلى أنها شجعت مع هؤلاء آخرين كثراً، من غير أبناء البادية، على الاستثمار في استيراد الأغنام وتربيتها بأعداد كبيرة لم تكن معروفة في صحاري السعودية في الماضي. ولقد كانت الأغنام من أهم أسباب إتلاف المراعي المحدودة أصلاً في هذه البلاد، خاصة وقد تزايدت أعدادها بالقدر الكبير الذي نشهده الآن. وكان مؤدى هذا كله أن صارت البادية لا تستغني عن إعانات الأعلاف في ممارسة حياتها القائمة، وذلك على أثر الزيادة الكبيرة التي نشأت في أعداد المواشي، والضرر الكبير الذي أصاب المراعي منها، وأنه لذلك سيلحق بهؤلاء ضررٌ بالغٌ في حال توقفت إعانات الأعلاف، أو تقلصت بقدر كبير. المثال الآخر والأهم، هو واقع الاقتصاد الوطني. فإن اختيار توجيه كامل ريع النفط لموازنة الدولة، وصرف جلِّ هذا الريع في مشاريع حكومية كبيرة، وعلى وجه من الاستعجال، قد أدى من ضمن ما أدى إليه إلى نشوء تضخم في الأسعار والأجور، واستلزم فتح الأبواب لاستقدام أعدادٍ كبيرة من العمالة الأجنبية الرخيصة لتشغيل هذه المشاريع، فنشأ عن ذلك اقتصادٌ ريعيٌ بامتياز، يقوم على المشاريع الحكومية الكبيرة والعمالة الرخيصة المستقدمة. وعندما بدأت تظهر مشكلة البطالة في صفوف المواطنين رغما عن الطفرة الاقتصادية التي كان الوطن يعيشها؛ وذلك نظراً لأن منشآت القطاع الخاص قامت على الأساس سابق الذكر، وهو العمالة الرخيصة المستقدمة، فما كانت مهيأة لاستيعاب الشباب السعودي في كوادرها، ولا كان الشباب السعودي مهيأ للانخراط في هذه الكوادر، لجأت السعودية إلى حلولٍ سريعة غير مستدامة مرة أخرى، فتوسعت في التوظيف الحكومي، ثم بدأت في إلزام منشآت القطاع الخاص بتوظيف السعوديين، متجاهلة واقع هذه المنشآت، ودون مراعاة للضرر الذي تُحدثه مثل هذه القرارات على الجميع، وأولهم هو الشباب السعودي. تشترك الأمثلة الثلاثة الأخيرة التي أشرت إليها فيما تقدم، في أنها إفراز سياسات دامت عقوداً طويلة، أريد منها نفع المواطن ولكنها لم تحقق حلولاً مستدامة،ونشأ عنها ارتباطات عميقة لا يحسن تجاهلها، أو مجرد تمني زوالها. والآن والوطن يسير في اتجاه برنامج تحوّل يهدف إلى خفض الإنفاق الحكومي، وتقليص الوظائف الحكومية، وزيادة مداخيل الدولة، فإن دواعي الاستقرار تتطلب أن يصاحب البرنامج التحولي خططٌ واقعية تأخذ بالاعتبار خصائص الواقع المعاش للمواطن، وآثار الواقع الجديد، ذو العيش مرتفع التكاليف الذي نسير إليه، على هذا المواطن، وإلى أي سبيل يذهب من هو من أبناء البادية من المواطنين عندما يفتقد الأساس الذي قامت عليه حياته حتى الآن، وما هي منشآت القطاع الخاص التي ستقدم فرص العمل الحقيقية المطلوبة للمواطنين عموماً، وبالعدد اللازم منها. إن دواعي الاستقرار الاجتماعي تستدعي ألاَّ تكون غاية خططنا هو ما نشهده في برامج السعودة التي امتد أمدها ولم تُفلح سوى بفرض وظائف وهمية، لا عمل حقيقاً فيها، ولا تجربة تُكتسب منها، ولا مستقبلاً واعداً نُفضي إليه.