أحدث تصويت الناخبين البريطانيين لصالح خروج بلادهم من الاتحاد الأوروبي صدمة عنيفة لرافضي الانسحاب؛ وللأوروبيين وتسبب في اضطراب الأسواق المالية؛ مذكرًا العالم بالأزمة المالية العالمية التي حدثت العام 2008. نائب المستشارة الألمانية «سيغمار غابريل» قال في تعليق على خروج بريطانيا من الاتحاد: إن «هناك استياء وصدمة في برلين؛ وإجماعًا على أن هذا قرار سيء لبريطانيا وألمانيا وأوروبا». أما اتحاد المصدرين الألمان فقد وصفوا القرار بال «كارثة». لم يتوقف؛ الخوف من خروج بريطانيا؛ عند التداعيات الاقتصادية المؤثرة على منطقة اليورو، بل تجاوزه إلى الخشية من انفراط سبحة الاتحاد الأوروبي وتفككه بعد أن كان يمثل التجربة الأكثر نضجًا وقوة على مستوى العالم. رئيس البرلمان الأوروبي «مارتن شولتز» حاول أن يخفف من صدمة الخروج؛ وفداحة تداعياته المتوقعة؛ ما دفعه للقول ب»أن خروج بريطانيا لن يسرع من تأثير الدومينو في أنحاء أوروبا». يبدو أن «شولتز» ألمح من حيث أراد النفي؛ إمكانية تفكك الاتحاد الأوروبي؛ وربما تفكك المملكة المتحدة كجزء من فاتورة الخروج المفاجئ. فحزب «شين فين»، دعا إلى التصويت على مستقبل «أيرلندا الشمالية» وإمكانية انفصالها لتصبح جزءًا من أيرلندا الموحدة؛ في الوقت الذي أظهر فيه استطلاع للرأي رغبة الأسكتلنديين الجامحة بالانفصال. لم يحسن المصوتون لصالح القرار؛ قراءة تداعياته المدمرة على الاقتصاد البريطاني؛ وانعكاسه على مستقبل المملكة المتحدة؛ ما دفعهم للتضحية بالمكاسب الاقتصادية؛ والوحدوية وتحمل المخاطر المرتفعة في مقابل القومية البريطانية التي قد تكون أول ضحايا الخروج. سلبية الساسة والاقتصاديين والمختصين البريطانيين؛ وتخلِّهم عن دورهم القيادي والتوجيهي للمجتمع؛ ربما أسهم بطريقة مباشرة في دعم موقف المطالبين بالاستقلالية والخروج السريع من الاتحاد؛ دون التفكر بمآلات الأمور والتكاليف الباهظة التي سيتحملها البريطانيون أنفسهم، قبل الآخرين. لم يطل الوقت قبل أن تظهر انعكاسات «نتائج التصويت» على الجنيه الاسترليني الذي فقد ما يقرب من 12 في المائة من قيمته مسجلاً مستويات قياسية لم يصلها منذ أكثر من ثلاثين عامًا؛ وتراجع السوق المالية؛ وانخفاض الأصول العقارية إضافة إلى إمكانية دخول الاقتصاد البريطاني مرحلة حرجة بسبب تسرب الاستثمارات الأجنبية؛ وهجرة البنوك والشركات العالمية وتقلص الوظائف. جريدة «ديلي ميل» البريطانية كشفت في تقرير لها عن قيام أضخم البنوك الاستثمارية في العالم، وهو «جي بي مورغان» بدراسة نقل مكاتبه وعملياته من لندن إلى باريس، إضافة إلى مؤسسات استثمارية ومصرفية كبرى بما فيها بنك (BNP) العالمي. صدمة الاستفتاء؛ والتداعيات المدمرة أيقظت الصامتين والمتهاونين في التعامل مع ملف الاتحاد الأوروبي؛ فارتفعت الأصوات مطالبة البرلمان برفض نتيجة الاستفتاء أو إعادته مرة أخرى. أكثر من 3 ملايين بريطاني وقعوا التماسًا لإعادة إجراء الاستفتاء بعد شعورهم بالخطر؛ وهو أمر لن يغير في النتائج المفاجئة؛ ولن يسهم في فرض بقاء بريطانيا ضمن الاتحاد. أثار تصويت البريطانيين لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي القلق في جميع الأسواق العالمية؛ وتسبب في انهيارات حادة أفقدتها ما يقرب من تريليوني دولار؛ وزاد من مخاطر الاستقرار المالي العالمي الذي لم يتحقق بعد منذ أزمة العام 2008. وعلى الرغم من إغلاق الأسواق الخليجية الجمعة الماضي؛ إلا أنها شهدت هبوطًا حادًا مع بدء تداولات يوم الأحد الذي يمثل بداية التعاملات الأسبوعية في أسواق المال الخليجية. نجحت السوق السعودية في تقليص خسائرها لتصل إلى 1.10 في المائة تقريبًا بإغلاق يوم الأحد؛ واستمرت في تذبذبها لليوم الثاني على التوالي؛ ومن المتوقع أن يستمر ضعف السوق كنتيجة مباشرة لما يحدث في الاتحاد الأوروبي. أحسب أن تصريحات معالي محافظ مؤسسة النقد؛ الدكتور أحمد الخليفي؛ ذات العلاقة بخروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي؛ كان لها أثر مباشر في الحد من تراجعات السوق الحادة؛ وإن لم تنجح في وقفها بالكلية؛ لتقصير الجهات الأخرى في تحمل مسؤولياتها تجاه السوق. تحتاج الأسواق المالية إلى صناع سوق وصناديق توازن ومرجعيات فنية ورسمية قادرة على حمايتها وتحصينها من التداعيات الخارجية؛ وهو ما لا يتوفر لسوق المال السعودية. مبادرة «ساما» وتقديمها المعلومة الشفافة في وقتها؛ وتوضيح محدودية انكشاف القطاع المصرفي؛ ساعد على طمأنة المستثمرين، تخفيف حجم الانعكاسات السلبية على السوق السعودية. إضافة إلى ذلك؛ أظهرت التصريحات البعد الاستراتيجي في تعامل «ساما» مع المتغيرات العالمية قبل حدوثها؛ بما يساعد على خفض المخاطر وتجنيب الاستثمارات السعودية الأزمات المفاجئة؛ وهو أمر يجب التوقف عنده كثيرًا. فالتعامل مع الأزمات المفاجئة أمر مهم؛ إلا أن توقع الأزمات واتخاذ إجراءات استراتيجية استباقية أكثر أهمية ولا شك. سياسة إعلامية متميزة بدأت ساما في انتهاجها أخيرًا؛ وهي السياسة التي يفترض أن تكون جزءًا أصيلاً من أدواتها المحققة للاستقرار المالي؛ وانضباطية الأسواق المحلية. أجزم أن تداعيات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ما زالت في بداياتها؛ ولم يظهر منها إلا رأس جبل الجليد؛ ما يستوجب العمل على وضع استراتيجيات المواجهة في الجوانب المالية والاستثمارية والعلاقات الدولية التي قطعًا لن تبقى على ما كانت عليه من قبل. زلزال الأسواق المالية قدم دروسًا مجانية في مخاطر الاستثمار في الأسواق المالية العالمية؛ وأهمية الدراسات التحليلة الاستراتيجية التي يمكن أن تتنبأ بالمخاطر قبل حدوثها وبما يحقق الأمان للاستثمارات السيادية؛ والاستقرار للنظام المالي. وقدم دروسًا في العلاقات الدولية والمنظمات العالمية التي لا يمكن الركون لها أو الوثوق بقدرتها على الصمود؛ وهي دروس ينبغي لنا التعلم منها؛ خاصة ما تعلق منها بالاستثمارات الخارجية؛ السياسة النقدية؛ السوق المشتركة والعلاقات الدولية المتشعبة.