ما أن يحزم العام الدراسي أدواته استعداداً للرحيل، حتى تهرع المدارس للتحضير لحفلات التخرج والوداع، حيث ينشط الصغار والكبار استعداداً لهذا الحدث الكبير، فيما ينشسط المشرفون على تلك البرامج نهاية كل عام التحضير لتلك الحفلات، بالرغم من تشديد وزارة التعليم بمنع تنظيم مثل هذه الحفلات خارج المدارس التي باتت تكلف الأسر فوق طاقتها.. والواقع أن هذه الحفلات يمكن النظر إليها نظرة إيجابية إذا كان احتفالا يمثل نهاية مرحلة لشكر الطلاب والطالبات لمعلميهم ومعلماتهن على ما بذلوه معهم من جهد في سنوات تحصيلهم الماضية، وللتعبير عن فرحهم للانتقال لمرحلة جديدة كانوا كثيراً ما يحلمون بدخولها ولبس زيها المخصص وكان سيكون جميلاً لو أنه جاء في حدود الممكن والمعقول، إلا أنه تحول وخصوصاً عند البنات إلى إسراف باذخ بعد أن بدلوا مكان الحفل من المدرسة إلى إحدى قصور الأفراح ثم أصبحن يحضرنَّ لهذه الحفلات وكأنهن يستعدن لزواج أحد أفراد عائلتهن، بدءاً من زي التخرج الموحد إلى توزيع الهدايا مروراً بأنغام الموسيقى، وصولاً للولائم والبوفيهات المفتوحة لتنتهي تلك الليالي مكللة بالديون على أسرهن وليتحول شكر الله على نعمة والفوز بالنجاح والانتقال لمرحلة مقبلة إلى عبء ثقيل على الأسر ولا سيما ذوي الدخل المحدود.. «الجزيرة» رصدت الظاهرة ووقفت على آراء بعض التربويين والأكاديميين والمرشدين الأسريين. تقول أم زياد سيدة سعودية (35 عاماً) إنها لا ترى أي أهمية لمثل هذا النوع من الحفلات خصوصاً إذا تعدى الاحتفال الإطار المألوف للتعبير عن الفرحة بالنجاح كاستئجار القصور والاستراحات وشراء الملابس المخصصة غالية الثمن لهذه الحفلات. وشددت أم زياد على ضرورة تدخل أولياء الأمور للحسم الأمر إذ تجاوز الاحتفال إمكانات العائلة واستطردت قائلة: حسم أولياء الأمور يمكن أن يكون دون علم الطلاب والطالبات، مع توفير بدائل أخرى مبسطة للتعبير عن فرحة التخرج. قيم مصطنعة أما أستاذ علم النفس المشارك عميد كلية التربية بجامعة حائل الدكتور فرحان بن سالم العنزي، فيقول إن كانت هذه الحفلات تقام على مستوى الأسرة وبدون تكلف وتهدف إلى إدخال البهجة والسرور وتقديم هدايا رمزية مكافأة للنجاح في إطار أسري مفعم بالحب والحنان، فهذا شيء إيجابي ومطلوب لتعزيز الشخصية الإيجابية وتقوية الروابط الأسرية وتعزيز النجاح والتفوق، أما أذا كانت الحفلات تقام بشكل متكلف وتبدو فيها مظاهر البذخ والإسراف، فهي بلا شك سلبية.. مشيراً إلى أن الهدف سينحرف عن مساره في تعزيز النجاح إلى تقديم قيم مصطنعة عن الذات بدافع التقليد والمباهاة للآخرين في تنافس محموم لا ينتهي. انعكاسات سلبية ويشير العنزي إلى أن تلك الممارسات لها انعكاسات سلبية على الفرد والمجتمع، حيث تعمل على ارتباط قيمة النجاح بقيم التباهي والتفاخر والعجب بالذات، كما تعمل على تقديم صور مشوهة غير حقيقية عن الذات، ويصبح الهدف منها التباهي أمام الآخرين والظهور بمظاهر لا تعكس الحال وتجعل الفرد متمرداً على الواقع وغير قادر على التكيف، كما أنها ترهق الأسر اقتصادياً وتعمل على تقسيم المجتمع الواحد إلى طبقات متضادة وفقا لمدى القدرة على الإنفاق بشكل غير مبرر أو مقبول. وتابع العنزي قائلاً: في كثير من الحالات هذه الحفلات لا تعكس الواقع الحقيقي للمستوى الاقتصادي لتلك الأسر، مما يدعو رب الأسرة إلى تكبد أعباء مادية إضافية من أجل ظهور ابنته في مستوى مناسب، وتلك مشكلة في حد ذاتها، حيث لا تظهر السمات الطبيعية للمجتمع وتختلق فيه أشياء ليس لها ضرورة حقيقية، وإنما هي بدافع التقليد وحب الظهور والمنافسة الكاذبة.. مشيراً إلى أن تلك الممارسات لها تأثيرات نفسية سلبية عميقة حين يشعر الطالب أو الطالبة بأن إنجازه الأكاديمي غير مقدر من أسرته عندما لا يقدموا له كما يقدم الآخرين لأبنائهم الأقل منه أكاديمياً؛ وقد ينعكس ذلك سلباً على قيمة النجاح والدراسة؛ في قياس مغلوط في ظل معايير مختلطة. واستطرد العنزي قائلاً: إننا نعيش في عصر التحول الاقتصادي، وينبغي على الأسرة التعامل مع مقدراتها بشكل احترافي حتى تستطيع تحقيق أهدافها بالشكل المناسب؛ ولا يكون التباهي والتفاخر هو الهدف الرئيس الذي يؤدي إلى إضعاف المجتمع وتعزيز الشخصية السلبية لأفراده. كفر النعم وبين العنزي أنه من الواجب على الآباء والأمهات والخطباء ورجال التعليم والإعلام وعموم القدوات في المجتمع، أن يعملوا على التحذير من هذه الظاهرة وتبيين تداعياتها السلبية على الفرد والمجتمع، وأن لا يفسدوا فرحة النجاح بكفر النعم وينبغي التركيز على الجوانب المعنوية للتكريم بأبعاده المختلفة، وأن تكون ضمن المناسبات الأسرية وليست مستقلة عنها وداعم رئيس في تحقيق وظائف الأسرة وترابط أعضائها. وشدد الدكتور العنزي على أهمية سن أنظمة رسمية لتجريم البذخ يسبقها حملات وقائية وتوعوية على مختلف المستويات ضمن قنوات مختلفة. التوعية الأسرية من جهتها أكدت المتخصصة في أصول التربية الدكتورة وفاء العياصرة، بأن الفكر الإسلامي فكر شمولي جاء لمعالجة جميع الزوايا في حياة الإنسان، ويتصف بالوسطية، حيث يدعو أتباعه دائماً بالاعتدال واجتناب الإفراط والتفريط والانتفاع بالنعم الإلهية بعيداً عن الإسراف والتبذير أي إنفاق المال فيما ينبغي، حيث إن إقامة هذه الاحتفالات بمناسبة التخرج ذات التكلفة الباهظة تعد من مظاهر الهدر التعليمي لأنها يترتب عليها ضياع في المال والوقت أو الجهد كما أنها تزيد من كاهل الأسرة وتسبب في حدوث أزمات اقتصادية خصوصاً للأسر ذات الدخل المحدود، وأضافت بقولها: يجب الحد من هذه الظاهرة بتوعية الأسرة من الغاية من هذه الاحتفالات وهي تقدير وتشجيع المتخرج أو المتخرجة والاعتدال وعدم التباهي والخروج عن الأطر الاجتماعية والقيم المألوفة. خارج التقاليد فيما أكد عبدالمجيد الذياب أحد المختصين في مجال الإرشاد النفسي بضرورة الاحتفال بلحظات الفوز والظفر وخاصة في الدراسة ولكن المؤسف في ذلك بأن بعض الأمور تتجاوز حدود المعقول في الآونة الأخيرة، حيث بدأت تُصرف ميزانيات ضخمة لحفلات تخرج ليست بالأمر الضروري حتى أصبح ذلك عبئاً كبيراً على رب الأسرة، كذلك تنامي وتزايد بعض الظواهر الغريبة والخارجة عن تقاليدنا وعاداتنا فمحاكاة الطالب يساعد على تفشي هذه الظواهر الغريبة وأضاف بقوله بأنه يجب على الأسر أن تفرح مع أبنائها ولكن داخل الإطار الأسري وأن يقتصر على تقديم الهدايا المناسبة لكل عمر ومرحلة وعدم الجنوح للتكلف المادي لأن القادم سيصبح أصعب وأكثر تعقيداً. ديون ونكد أما المرشد الأسري عبدالله الجريفان، فيشير إلى أن حفلات التخرج والنجاح هي من أشكال التعبير عن الفرح والسعادة بالنجاح، وفي الأصل هي حق مشروع للطالب والطالبة في حياته لاعتبارات معنوية ونفسية تترك أثراً جميلاً في نفوسهم أذا كانت هذه الحفلات ذات تكاليف منخفضة، أو مقبولة في ظل أجواء مفعمة بالحُب والاحترام، كما ولها أثر معنوي وتربوي تلمسه الأم في أبنائها بشكل كبير جداً إذا أحسنت استثمار هذه الفرصة وهذا الموقف لإرسال رسائل إيجابية في العقل الباطن لأبنائها. وأضاف قائلاً: أما أذا كانت هناك مبالغة في شكل وهيئة هذه الحفلات ومصاريفها وتكاليفها فهذا أمر غير مرغوب فيه مطلقاً كي لا تخرج عن إطارها ومحتواها النفسي والمعنوي كأحد أشكال التعبير عن الفرح، وتتحول إلى عبء ثقيل وهم كبير يفسد الفرح ويفقد الأسرة لذة النجاح وقد تصل تكاليفها بعض الحالات إلى درجة الدخول في ديون ويكون هذا الاحتفال مصدر نكد وقلق مستمر على الأسرة. مظاهر مستوردة من جهته يوضح عبد الرحمن الشمري -باحث في شؤون الأسرة- بأن ظاهرة حفلات التخرج كبَّدت الأسر مبالغ باهظة وأثقلت كاهلها وأثرت على مدخولها الشهري، معتبراً أن لهذه التكاليف أثراً سلبياً على المجتمع، فهي عادة سلبية انتشرت في وقت نحن بحاجة إلى تثقيف طلابنا وطالباتنا بأهمية توفير المال واستخدامه في الضروريات وليس الكماليات، وهذه الظاهرة تفشت في مجتمعنا بشكل ملحوظ، وأصبحوا يقلدون زملاءهم في المشاركة في الحفلات، بل وفي دفع المال وقد يصحبها التي مظاهر مستوردة من الغرب وغير لائقة في مجتمعنا المحافظ على قيمه وعاداته.