في هذه المقالة التي تليها أتتبع عددًا من الأوهام العلمية والأضاليل حول الخليل بن أحمد الفراهيدي، وأبدأها بخبر أورده الزبيدي في طبقات النحويين واللغويين، وفيه يقول: «ويروى أن ملك اليونانية كتب إلى الخليل بن أحمد كتابًا باليونانية، فخلا بالكتاب شهرًا حتى فهمه، فقيل له في ذلك، فقال: قلت إنه لابد له من أن يفتح الكتاب ببسم الله أو ما أشبهه، فبنيت أول حروفه على ذلك، فاقتاس لي. فكان هذا الأصل الذي عمل له الخليل كتاب (المُعمىّ)». ومن يتابع الدراسات الحديثة عن الخليل يجد أن معظم من أشاروا إلى نص الزبيدي أعلاه يسخفون من القصة، بسبب ظنهم أن المسألة مسألة قراءة باليونانية فحسب، بل وصل الحال ببعضهم أن تكلم عن ذلك الخبر بمنتهى السخرية ووصف ما جاء فيه بأنه أسطورة نسجت حول الخليل. فقد قال الدكتور إحسان عباس في كتابه (ملامح يونانية في الأدب العربي) عن هذا الخبر الذي أورده الزبيدي :» ولعل الأسطورة التي رواها الزبيدي إنما هي تعبير غير مباشر عن الظن أنه كان يعرف اليونانية. « كما قال الدكتور يوسف بكار في كتابه (عروض الخليل بن أحمد : مقاربات جديدة) :» ليس بعيدًا أن تكون هذه الرواية نُسجت بوحي من زعم يونس النحوي أن الخليل بن أحمد كان يستدل بالعربية على سائر اللغات ذكاء منه وفطنة.» وهذا من قبيل التسرع في إطلاق الأحكام العلمية ومن باب الأوهام. ولو تريث هؤلاء وفهموا سياق النص التاريخي، ووضعوه في ضوء مستجدات العلوم وما كشفه الباحثون المحدثون من أن ابتكار علم التعمية كانت الريادة فيه للعرب، ولو تتبعوا تاريخ هذا العلم لفهموا أن النص الذي ذكره الزبيدي كان يتحدث عن مولد علم جديد، وهو علم من الواضح أن مجد ريادته وابتكاره يعود للخليل بغض النظر عن معرفة الخليل لليونانية أو عدم معرفته بها. فما هو علم التعمية. علم التعمية : التعمية Encipher : «استعمل العرب هذا المصطلح كناية عن عملية تحويل نص واضح إلى نص غير مفهوم باستعمال طريقة محددة يستطيع من يعرفها أن يعود ويفهم النص. لقد درج في أيامنا هذه استعمال كلمة التشفير بدلاً من كلمة التعمية، وهي وافدة من اللغات اللاتينية Cipher والتي جاءت من كلمة عربية النجار «صفر»، وهو ما أشارت إليه كثير من المراجع.» وعلم التعمية أو التشفير يحظى باهتمام كبير، إذ تمتد فائدته العملية لتشمل المجالات الدبلوماسية والعسكرية، والأمنية، والتجارية، والاقتصادية، والإعلامية، والمصرفية والمعلوماتية. وأهم تطبيقات علم التعمية تتمثل في الرياضيات وعلوم الحوسبة واللسانيات الحاسوبية، وكذلك علوم الإدارة والإلكترونيات والمعلوماتية وميكانيك الكم. - د. فاطمة بنت عبدالله الوهيبي