في السابق كان القراء يقرأون الصحف منذ الصباح الباكر كلما كان ذلك ممكناً، وقد ينتظر بعضُهم حتى المساء بسبب الانشغال في الأعمال صباحاً. الآن، صار القراء يحبذون القراءة في المساء المتأخر لكنهم يقرأون صحف الغد التي تُبكر في نشر بعض محتوياتها على مواقعها في الإنترنت، بينما يستمر قراءة الصحف الورقية المخلصون الذين يستمدون متعتهم ليس فقط من محتوى ما يقرأون وإنما أيضاً من تصفح الجريدة واستعراض مواقع العناوين وتوزيعها بين الصفحات وتأمل المقالات والأخبار التي تبرزها الجريدة في المواقع المميزة، وربما يتفحصون الإعلانات ويتابعونها ويستمدون منها معلومات عن السوق. أنا من الجيل الذي ما زال يعشق قراءة الصحافة الورقية، ولكني أقرأ الصحافة الإلكترونية أيضاً لأسباب عملية، فليس بوسعي الحصول على جميع الصحف، كما أن هناك صحفاً تصدر في أماكن بعيدة من العالم ولا يمكن أن تصل في الوقت المناسب وبعضها لا يوزع هنا لأن عدد قرائها محدود. ولكن رغم تعلقنا بالصحافة الورقية، ربما أننا نكابر حين نعتقد أنها لن تفقد سوقها ولن تضعف أمام التغيرات التقنية. فالكتاب الورقي، مثلاً، لم يعد كما كان بعد أن صار من الممكن الحصول على نسخة رقمية منه وإنزالها على جهاز الآيباد كي تقرأه متى وأين أردت بسهولة ويسر متخطياً قيود الرقابة ومستمتعاً بما تتيحه لك التقنية من التحكم في طريقة العرض وفي تكبير الحروف ومستوى الضوء والقراءة حتى في الأماكن المظلمة وتحميل مئات الكتب ونقلها معك أينما ذهبت! مؤخراً، أوقفت جريدة الإندبندنت البريطانية العريقة التي تعتبر واحدة من أشهر الصحف البريطانية والعالمية نسختها الورقية واكتفت بالنسخة الإليكترونية لأسباب اقتصادية بعد أن هجرها القراء والمعلنون الذين وجدوا بدائل رقمية أسهل وأرخص. ومع نهاية شهر مارس الجاري تتوقف صحيفة السفير اللبنانية لنفس الأسباب، وسوف تتبعها صحف أخرى. شيء محزن أن تتوقف الصحف الورقية، فهذه الصحف تمنح مدمني قراءتها بهجة لا توصف. هي جزء من روتين حياتهم اليومية، وقد تشكلت ذائقتهم وميولهم القِرائية على مدى سِنِي حياتهم بتأثر العادة المتكررة في قراءة الصحيفة اليومية، لكن المشكلة أن الصحيفة التي تطالعها في الصباح الباكر تقدم لك مادة قرأتها البارحة فصار معظم ما فيها قديم تجاوزه الزمن. إنها التقنية التي انتقلت بالإنسان عبر العصور من حال إلى حال بتطبيقاتها المتجددة التي تهدم القديم وتقيم جديداً مكانه، وإذا كان هدف الصحيفة هو توصيل المعلومة وتحليلها والتأثير في الرأي العام فإن التقنية المتطورة في زمننا الحاضر أبقت على الهدف من الصحيفة وغيَّرت الوسيلة، لكن الإنسان يتمسك بعاداته القديمة ويحن إليها ثم يجرفه تيار التغير الذي لا يُبقي ولا يذر!