في نهاية التسعينيات، ومطلع الألفية الجديدة، كنت في بريطانيا، في رحلة دراسة. وفي يومي الأول، المتزامن مع عطلة نهاية الأسبوع، خرجت من الفندق بعدما وضعت حقيبتي، ودخلت متجرًا، اقتنيت منه جميع الصحف البريطانية، كعادتي حينما أزور بلدًا لأول مرة؛ فأحاول الدخول إلى دهاليزه من بوابة الصحافة. وبعد أشهر عدة بقيت صحيفة «إندبندنت» هي صحيفتي المفضلة، التي أحرص على اقتنائها، وقراءتها، طوال فترة مكوثي هناك! بالأمس نعت قناة العربية موت هذه الصحيفة العريقة في نسختها الورقية، بعد ثلاثين عامًا من الصدور، وبعد مبيعات شارفت خلال فترات ازدهارها على نصف المليون نسخة، فاضطرت أخيرًا إلى دفن ورقها للأبد، والاكتفاء بعالم الإلكترون المجنون، الذي التهم الورق والحبر ورائحته التي لا يُخطئها الأنف! بعيدًا عن ارتباطنا العاطفي بالورق، وملمسه، ورائحة الحبر فيه، بصحبة الصباح، وفنجان القهوة، والموسيقى، تبقى المؤسسات الصحفية العريقة مرتبطة بقوائم مالية، وحسابات أرباح وخسائر، يصعب معها المقاومة، ومواجهة التيار، بانحسار القراء التقليديين من جهة، وانحسار المعلنين الذين كانوا يشكلون مصدر القوة والكسب في الصحافة، خاصة أن هؤلاء بدؤوا ينصرفون بإعلاناتهم إلى الصحافة الإلكترونية؛ لأنهم ببساطة يبحثون عن مستهلك الإعلان، الذي أصبح بدوره إلكترونيًّا، يقرأ المادة الصحفية والإعلانية من خلال الأجهزة الذكية، التي يحملها في جيبه! ولعل السؤال المهم، عشية موت الإندبندنت، وطباعة العدد الورقي الأخير منها: هل سيعم هذا الطوفان صحافة العالم بأسره؟ هل ستكف الآلات في المطابع عن العمل خلال عقد من السنوات مثلاً؟ فلا نجد صحيفة، ولا كتابًا ورقيًّا؟ ويتم تسريح عمال المطابع؟ هل ستلغى أجنحة الكتب في المكتبات التجارية الكبرى، التي قد تكتفي بأجنحة الأجهزة الإلكترونية الذكية فقط؟ كل هذا ممكن أن يحدث تدريجيًّا؛ فالتحول إلى العصر الرقمي تطلب مرور أكثر من عقد ونصف العقد من السنوات، ولا شك أن معظم صحف العالم ومجلاته، ومعظم دور النشر العالمية، قد تحولت كليًّا أو جزئيًّا إلى الصحافة والكتب الإلكترونية؛ فلا أعتقد أن ثمة صحيفة ليس لديها موقع إلكتروني تفاعلي، يتوافر منه تطبيقات تعمل على الأجهزة الذكية، إضافة إلى استمرارها بشكلها الورقي، ولا أعتقد أن ناشرًا عالميًّا لم يصدر معظم كتبه بصيغة إلكترونية؛ ما يعني أن التحوُّل الإلكتروني قادم لا محالة، والمسألة هي مسألة وقت لا أكثر! إذًا، على الصحف التي تخطط للمستقبل أن تعمل باكرًا على انتشارها إلكترونيًّا؛ ما يعزز قدراتها وجذبها الإعلاني؛ فإن وقفت نسختها الورقية لا يعني ذلك شيئًا لها على المستوى التجاري، ولا يؤثر على أرباحها؛ إذ انتقل المعلنون معها منذ سنوات إلى العالم الرقمي.