النشاط الانساني بدأ بمجتمع واحد او مجتمعات صغيرة منعزلة جغرافيا بمسافات تجعلها تتطور مستقلة عن بعضها البعض. وكان اقتصاد ما قبل الحضارة يعتمد الصيد وجمع الثمار البرية, وهو لا يتطلب الثبات في مكان واحد ولا تناحر بين افراده للحصول على الغذاء بسبب توفر المقدار الكافي للجميع. كما أن الوعي الذي ميز الانسان عن تجمعات الكائنات الحية الاخرى منحه قدرة على العمل الجماعي, حيث استطاع من خلاله توفير الغذاء والسيطرة على الطبيعة ايضاً. بعد التحول للاقتصاد الزراعي وتدجين الحيوانات تجزأ ذلك المجتمع الواحد الى عدة مجتمعات تستولي كل منها على بقعة من الأرض (وطن) تنتج وتعيش وتتطور فيها(حضارة). في بداية الحضارة نشبت حروب الغزو بين ما تبقى من تجمعات لم تستوطن بعد والحضارات الناشئة حسب الاكتشافات الارخيولوجية. الاستيطان وتقييد الحياة (الحرّة) لعناصر المجتمع كان منبوذاً إذن, وهذا يعني أن الانسان مجبول على (الحرية) وليس على الاستعباد, وقد كان يتوق لاستعادة ذلك المجتمع المتآخي الذي يؤمّن الحياة الحرة الكريمة ويوفر العدالة الاجتماعية للجميع دون تفاوت بين عناصره. لم يتوقف النزوع نحو استعادة المجتمع الواحد طوال التاريخ, فلإسكندر المقدوني حاول توحيد العالم تحت شعار تعميم (الفضيلة), أي إنشاء مجتمع عالمي موحد وتنظيم الانتاج وتوزيع الثروة على أسس أخلاقية يراها هو (صحيحة), لقد كان ذلك في زمن العبودية قبل الميلاد وانتشار الوثنية التي جزئت حتى المجتمعات ذات اللغة والمنشأ والتاريخ والجغرافيا المشتركة, الى نتف صغيرة متناحرة فيما بينها. يعلم القارئ الكريم أن الأنبياء عليهم السلام أرسلوا للناس جميعاً وليس لقوم من الأقوام, وقد دعوا أولا الى توحيد الإله عز وجل ونبذ الأوثان, وأنشأوا ثانياً مجتمعا على شكل دولة مركزية يضم أقواماً مختلفة, أما ثالثاً والذي يحمل قدراً كبيراً من الأهمية أن الأديان السماوية لم يلغ بعضها بعضاً وأكّدت على الهدف الأسمى -وهو العدالة الاجتماعية, سواءً تم تحقيق ذلك عبر الزكاة أو الجزية, ثم رصدت ثروة بيت المال لبناء السدود واستصلاح الأراضي (تنمية), وكذلك إنشاء المؤسسات للإدارة والحماية والفتوحات لتوحيد الأرض والمجتمع الناشيء في عيش مشترك, أي (العولمة) بلغة عصرنا الحالي. كان الهدف من العولمة قبْل الرأسمالية هو توظيف الأسس الدينية والأخلاقية للشعوب المتناثرة في نظام يخدم المصلحة المشتركة والتنمية للجميع. حينما بدأت المرحلة الرأسمالية بعد الثورة الفرنسية لم تعد النزعة الأخلاقية للعولمة هي التي تقود المشهد, إنما (ضرورة) تنمية الرأسمال تصدرت العملية كلها, حيث أصبح (الاستيلاء) على مصادر المواد الخام والأسواق الجديدة هو الذي يسيّر العلاقات الدولية, وتم (ربط مصير) شعوب الأرض بالجشع الرأسمالي واللهث وراء الربح. النزعة نحو العولمة إذن في عصر الرأسمال ليست مبنية على (الفضيلة) او (الرسالة الدينية) او القيم الأخلاقية, إنما على استعباد الشعوب, لذلك تحول الاضطهاد من طبقي محدود داخل كل مجتمع على حده, الى صراع بين شعوب مهيمنة ظالمة وشعوب مستعمرة مقهورة ومظلومة, أي أن الصراع أصبح شعوبياً. مصطلح الصراع الشعوبي يعبر عما يجري في عصرنا, حيث تهيمن شعوب على شكل أحلاف عسكرية او تكتلات واسعة على شعوب أخرى وتستعبدها, وبالمقابل تدخل الشعوب المقهورة في تكتلات مضادّة للتخلص من الاضطهاد. أما الشعوبية: (هي حركة فكرية سياسية ظهرت في أواخر العهد الأموي واشتدّت إبّان العهد العباسي, كانت تطالب بالتسوية بين العرب المهيمنين في ذلك الوقت والعجم. أشار المفكر الايراني علي شريعتي في وصفه الحركة الصفوية الى أن (الشعوبية تحولت من حركة تنشد التسوية الى حركة فاشية تحاول تفضيل العرق الفارسي على العربي مستخدمة المشاعر الدينية) (انظر الشعوبية – الموسوعة الحرّة) الشعوبية انتصرت على العرب بالإمبراطورية العثمانية (1299-1923) اكثر من ستة قرون, ولم تنته بسقوط الدولة العثمانية, إنما تم تسليم العرب الذين قاتلوا الى جانب الاتراك حفاظاً عليها للاستعمار الأوروبي, وهي مستمرّة حتى الساعة في التآمر سوية مع حلف الأطلسي في تثبيت الهيمنة الاستعمارية.