غبطتي بالوصول إلى الأماكن التي عبر بها امرؤ القيس أو أقام بها لا تعادلها غبطةٌ أخرى، فأن يقف المرءُ على الأماكن التي وقف بها الشاعرُ القديمُ منذ أكثر من ألف وخمسمائة عام، وأن يعيش حالته نفسها بأجواء الصحراء، وأن يتخيل ويتساءل فهذا من الأمور المبهجة التي تلقي بظلال التاريخ والجغرافيا والزمان على شفاه الروح المتسائلة. إنني أحمدُ الله كثيرًا وأشعرُ بالفرح لأنه قدَّر لي أن أصلَ لهذه الأماكن القصية في الزمن الحاضر في جسد الصحراء، وأن أراها رأي العين، وأمتِّعَ بها الحواس كما تمتَّع امرؤ القيس شاعر الشعراء في عصره. لقد شاهدتُ «دارة جلجل» تتسع بساحاتها في قلب الصحراء بعد أن وصلنا إليها بصعوبة شديدة وقطعنا دروبًا وعرةً وطرقًا رمليَّةً وحجريَّةً وصخريَّةً خطرةً. وشاهدتُ «مُويْسل» و»مأْسل» بعد أن ضربنا أكباد السيارات لا الإبل مسافاتٍ طويلةً وسط دروب وعرة أيضاً تحيطُ بنا المرتفعات والتلال والجبال والوديان والصحارى الشاسعة من كل الاتجاهات. أما السماء التي ترانا فهي مترعة بنجومها الليلية أو شمسها النهارية الخفيفة صباحًا وعصرًا الساخنة قليلاً ظهرًا. في مثل هذا الوقت الربيعيّ المعشب. أبرز ما يميز منطقة وادي الدواسر الشاسعة أنها ممتدة جداً، ولا تستطيع أن تعرف لها حدًّا، وقد استعان الدكتور عيد اليحيى منظم الرحلة بأجهزة الGPS وأجهزة أخرى وخرائط تحدد المسافات والإحداثيات والأمكنة. قلتُ سابقاً: إنني سأرتدي الزي الرسمي حين أصل لأماكن امرئ القيس في منطقة الدخول وحومل، فهذا الشاعرُ العبقريُّ يجب أن أقابله رسميًّا، وأن أدير معه حوارًا على مستوى شعري وإنساني، فامرؤ القيس هو الذي طوّر الشعر العربي قديمًا وجدّده، هو من أبكى واستبكى وأوقف واستوقف وهو من قيَّد الأوابد. هذا كلام نقادنا العرب القدامى عنه. أما كلامي عنه فسوف يكون كلاماً كثيراً مختلفاً لا يُتاح لي كتابته الآن وأنا في داخل الرحلة، حين أعود إلى الرياض وإلى القاهرة ستكون هناك كتابات مختلفة جديدة عن هذا الشاعر العبقري المتمرد المغامر الذي عاش حياته في نزق، وختمها بنزق. كانت القراءات هي التي تحدد تأملي في ما كتبه امرؤ القيس وغيره من الشعراء، لكن الآن الصورة مختلفة جذريًّا، فقد رأيتُ وشاهدتُ وعشتُ وعايشتُ الأجواء نفسها التي مرَّ بها امرؤ القيس وهي أجواءٌ صحراويةٌ ونفسية شائكة وصعبة المراس. هنا سيختلف التفسير وتزدادُ جرعاتُ التأويل بعد أن رأيتُ أماكن امرئ القيس حقيقةً. المكان الذي يضم: «سقط اللوى» و»الدخول» و»حومل» عبارة عن مكان صحراوي شاسع، يحتوي على عدد من المرتفعات والتضاريس ما بين تلال وهضاب وجبال، الأرض رملية مستوية على الأغلب، تمتد في بعض بقاعها أشجار: «السُّمُرُ» و»الطلحُ» الشائكةُ وهي أشجارٌ قصيرة تُستخدمُ حين تجفُّ كأحطاب، وهذه الأشجار ومعها: «العُشر» تنمو وتظهر على امتدادات وادي الدواسر. «سقط اللوى» يتوسط جبال الدخول وحومل على مسافات بين 5-7 كم وهو يتخذ شكل جدار جبلي ممتد في لونين: رمادي وبني، وجبلي أصفر. جدار جبلي متعرج تحيطه الرمال من مختلف امتداداته. وتوجد بالقرب منه وعلى امتداد مساحته أشجار: السمر القصيرة الشائكة وهي على شكل هرم صغير مقلوب، أو بالأحرى مثلث مقلوب قاعدته في الأعلى ورأسه إلى الأسفل. أو على شكل فازات الزهور أو الكؤوس، نحيفة من الأسفل كثيفة دائرية من الأعلى ومتساوية، وكأنها مقصوصة بعناية. كانت المفاجأة عند وصولنا إلى «سقط اللوى» أن وجدنا أمامها ثمار «الحنظل» الصفراء نامية وممتدة على الرمال. هذه الثمار التي وجدناها في طرق ووديان «بيشة» و»يدمة» نجدها هنا أيضاً؟ تذكرتُ على الفور بيت امرئ القيس الذي شبَّه فيه شدة دموعه ب «ناقف حنظل» ..فالذي ينقفُ «يفقأُ» ثمرة الحنظل تسيل دموعه فوراً من رائحتها بكثافة، وهذا جعل محمل امرئ القيس وثيابه تبتل من الدمع كما يعبر في معلقته: وأشجار السمرات نابتة بكثافة أمام سقط اللوى وأمام الدخول وحومل أيضاً، والحنظل موجود أيضاً أمام سقط اللوى، وهذا ما يؤكد تماماً صحة ما ذكره امرؤ القيس في معلقته، لأنه يكتب من البيئة التي يعيش فيها، وأن حكاية نحْل الشعر أو انتحاله كانت من القصص غير الصائبة التي انشغل بها الباحثون منذ أن طرحها الدكتور طه حسين في كتابه: «في الشعر الجاهلي» مستنداً على آراء لابن سلام الجمحي والمستشرق مرجليوث، فتحديد المواضع في معلقة امرئ القيس صحيح تمامًا. وسقط اللوى يتوسط الدخول وحومل وأشجار «السمرات» تنتشر بكثافة، ونبات الحنظل موجود أمام امتدادات سقط اللوى. متعة الاكتشاف هنا تضاهي متعة الصدق الشعري، هذا الشاعر العبقري استولد من بيئته سردًا شعريًّا مخايلاً يقصّ فيه ارتحالاته ومغامراته وأسفاره التي قطع فيها مسافات هائلة ما بين اليمن وجنوب الجزيرة العربية ووسطها وشمالها وصولاً إلى أنقرة والقسطنطينية في مغامرات تتجاوز مغامرات الشاعر الفرنسي: رامبو. فامرؤ القيس يتجاوز هذه المغامرات، ويصف أسفاره بشاعرية لا تحدّ في مغامرات حقيقية وحروب وعرة خاضها انتقاماًً وثأراً لمقتل أبيه «حجر» وبحثاً عن ملكه الضائع. لقد نقل امرئ القيس عذاباته الإنسانية وأيضاً مغامراته النسوية بجمالياتها وإحباطاتها، وهذا المكانُ أحد الشواهد على تجربته الشعرية والحياتية القاسية. في تصوري إنه يشبه شخصيات وليم شكسبير: هاملت، وماكبث وعطيل، وفي رأيي أيضاً إنه يتفوق على شعراء نرددهم كثيراً في هوياتنا المفقودة، وآراءنا المهزومة مثل: رامبو فنحن لدينا رامبو وماكبث وعطيل وهاملت متجسدون جميعاً في شخصية امرئ القيس. هذا الشاعر الذي ربط النجوم بجبال: «يذبل» بأمراس كتان ليصف ليله الطويل، وقدم أروع بيت شعري في وصف الفرس: يكثر الكلامُ على امرئ القيس، ولكن هذه الرحلة ومشاهدة الأماكن على الطبيعة قدمت لي رؤى جديدة وأسئلة مغايرة مختلفة.