)) في كل يوم يتطلع الناس في قريتهم إلى السماء علّهم يرون سحابة ماطرة تعيد إليهم الأمل في ازدهار واديهم وتعيده إلى سابق عهده يوم كانت الأمطار تهطل كل يوم وتعود نواظرهم مطعونة واليأس يكاد يخنقهم، ويوم تقسو الحياة، يضطر المرء للمركب الصعب، حيث لا يوجد غيره، ولأن القرية المعزولة بمفردها في عمق الوادي الموحش تعاني منذ سنوات من القحط الشديد، فقد جفّت الآبار وتعطلت الزراعة وماتت الأغنام والأبقار في المسارب والطرقات، وبات شبح الجوع يهدد أهلها بالفناء إن هم ظلوا فيها، وهنا بدأ التفكير في تصرف رشيد يضمن للناس بقاءهم على قيد الحياة، وبعد أن أدى أهل القرية إحدى صلوات المغرب قال معرفهم: - إذا سننتم يا جماعة لا أحد يروح.. معنا قضية لا بد من التباحث فيها.. قالوا: - يا ساعة الرحمن وبعد ما تحلقوا في ساحة المسجد، لأن من عادتهم ألا يتحدثوا في شؤونهم الدنيوية داخل المسجد باعتباره بيت الله المعد للعبادة دون غيرها.. قال المعرف: - العلم خير.. قالوا: - يا الله فيه.. قال أحدهم: - من أين نرى الخير ونحن سنموت من الجوع ؟.. قال المجاور له في المجلس: - اذكر الله يا مسلم.. دعنا نسمع استأنف المعرف حديثه قائلاً: - تعلمون أن الواحد منا يحب ديرته.. لكن ما أحد يرضى بتسليم روحه للهلاك ما دام فيه عرْق ينفح.. والله قرر علينا ما نحن فيه من خطر، وحسن التصرف يملي علينا التفكير في الرحيل فهو أولى من البقاء.. وأرض الله واسعة وأرزاقه على الناس مطر، وعلينا أن نبات الليلة في القرية، وفي مساء الغد نتلمس طريقنا إلى أرض فيها خير، وأنا واثق أن الله سيلطف بنا، لأننا خارجون من شر لكي نجد خيراً - إن شاء الله -.. قال الجميع: - عليها لبينا.. لكن أحد البسطاء قال: - نحن أسرة واحدة.. ومصلحتنا أيضاً واحدة، فإن شئتم يممنا صوب مكة فذلك في نظري أبرك ما دمنا مستعدين لبدء الرحلة، وبينما كان الجميع يرتبون لها كانت الأمة سعدية تفكر في وضع وليدها الذي لم يبلغ عامه الأول إذ كان هاجس الخوف عليه مستبداً بحواسها، ولم تدر ماذا تفعل من أجله، إلا أنها دلفت إلى طريق العين الناضبة على غير هدى ثم جلست تحت شجرة السدر العملاقة وفكرها شارد ودموعها تسيل ساحبة معها كحلها الذي تبعثر على خديها.. فجأة مر بها أحدهم وسألها عما يبكيها.. قالت: - عمي يقول إننا سنرحل بعد مغرب اليوم، وأنا خائفة على طفلي من قطّاع الطرق، ولا أدري ماذا أفعل.. قال الرجل: - «ماذا أنا به منك» - يقصد هل ستسمع الكلام الذي سيقوله لها ومن ثم تنفذه -.. قالت: - بي وابشر، ما عندي أغلى من ولدي - تقصد أنها ستسمع نصيحته.. قال: - إذا بدأت المسيرة واقتربنا من بيت شيخ القبيلة فتباطئي في السير والتبسي الظلام ثم انحرفي صوب بيت الشيخ وهناك اعرضي عليه وضع ابنك لديه واذكري له أنك تتركينه أمانة في عنقه يتربى مع عياله، وإذا كبر سيكون خادماً خاصاً له.. استحسنت الفكرة وقررت تنفيذها والباقي على الله.. لكنها اضطرت إلى سلوك طريق غير عادي إمعاناً في التمويه إذ لو علم عمها بنيتها لعاقبها عقاباً شديداً لأنها هي وابنها من أملاكه الخاصة بحكم العُرف القبلي في زمن الرق، ولما ولجت قرية الشيخ لم يكن في مقدورها طرق بابه في الليل، وإنما فضّلت البقاء في إحدى زواياها المعتمة إلى أن يؤذن لصلاة الفجر، وهي تقول: «الصباح رباح.. ومن أصبح أفلح».. ومع أن انتظارها كان طويلاً ومملاً إلا أن رؤيتها للشيخ وهو في طريقه للمسجد المجاور لداره حاملاً فانوس الإضاءة كي يرى الطريق بجلاء أسعدتها كثيراً، وما أن دخل إلى المسجد حتى دلفت إلى الدار بعد ما طرقت بابها وفتح لها بحذر، وفي الفناء قبَّلت رأس إحدى زوجاته طالبة شفاعتها لدى الشيخ كي يتقبّل رضيعها على سبيل الأمانة، فيرعاه ويستفيد من خدماته إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً، وكان لها ما أرادت، ولم تنس أن تُذكّر الشيخ أن يجعله بين صغار أسرته على سبيل الأمانة التي تبرأت منها الجبال، أما هي فقد عقدت العزم على مغادرة الديرة إلى قطاع تهامة، فأمدتها زوج الشيخ ب «زوادة» طعام لا يخلو من جودة، وأعطاها الشيخ قليلاً من المال، وبعد ما قبّلت ابنها الذي كان يغط في نوم عميق بدأت مشوارها في طريق لم تعهده من قبل، وانحدرت من العقبة الموصلة إلى السهول الساحلية، وهي بين متفائلة بفرج الله، ومتشائمة من المستقبل المجهول، ولما تتذكّر وليدها تسيل ينابيع دموعها بغزارة، إذ لا تستطيع رؤيته لبعد المسافة وصعوبة الصعود إلى أعلى السراة، ثم تنظر إلى السماء مناجية ربها أن يرأف بحالها وحال ابنها الضعيف.. وبدون مقدمات قفز تفكيرها إلى أهل القرية التي لا تعلم أين توجهوا، وكم كانت تتمنى أن تعلم بمصيرهم، لكنها لا تدري بمسيرهم في طريق مكة بعد ما أقفلوا أبواب بيوتهم وقد وصلوا إلى جوار بيت الله، وتمكنوا من استئجار أرض مسورة وبدأوا على الفور في إقامة مساكن من الصفيح، وذلك ما تسمح به إمكاناتهم المادية، وخير ما فعلوه أن أغنياءهم يحضرون متطلبات العمل وفقراءهم يعملون مع المختص في إقامة المساكن التي زادت عن خمسة عشر بيتاً على هيئة مجمع، وفرحوا بعد ما انتهوا من العمل الشاق، وجلبوا لهم قدراً من مواد الغذاء وأعدوا وليمة متواضعة ودعوا المعلم الذي أشرف على البناء، وبعد تناول طعام العشاء قدموا له هدية كانت عبارة عن كسوة كاملة بأسلوب لم يعهده من قبل، ولما سأل عن موضوعها علم أنها من عادات القرى الجنوبية، وفي تلك الليلة عرض على الراغبين في العمل معه فرصة لا تعوض قائلاً إنهم سيحصلون على أجور مجزية اعتباراً من تلك الليلة فوافقه ثمانية رجال ممن ليس لديهم سيولة مالية تعينهم على المتاجرة، وقد كانت سعادتهم غامرة خصوصاً عند ما يجتمعون كل مساء في سمر بريء مع عوائلهم في مساحة من الأرض بين بيوتهم خصّصوها للاجتماع كل ليلة، وكلهم يردد قول الحق «إن مع العسر يسرا». في بيت الشيخ شبّ الطفل الأمانة عن الطوق، وكان اسمه «طرّاد» فسمّاه الشيخ «فرج» بعد ما رأى منه نجابة وذكاء عجيبين، وصار يكلفه بنشاطات أكبر من قدراته فيحقق نتائج باهرة، وكان يلقى معاملة مساوية لمعاملة أبناء الشيخ، في كل ما يتعلق بطعامه وكسوته حد أنه يذهب معهم ل «كتّاب» القرية كي يتعلم قراءة وحفظ القرآن الكريم، بينما كانت أمه تسفح دموعها ليلاً ونهاراً من شدة ولهها عليه، وقد استقرت في أقرب قرى تهامة، وبدأت رحلة البحث عن العيش الكريم، وأخذت تتردد على سوق البلدة الأسبوعي تشتري الأعشاب العطرية وتعيد تشكيل ربطها لتتمكن من الحصول على ربح بسيط، وكانت تنتقل من حال إلى حال أفضل، وقد عُرض عليها الزواج من أكثر من مرتاد للسوق، لكنها لم تستجب لأحد حيث كان شغلها الشاغل وضع ابنها، وتتمنى لو أنها تعلم بحاله وكيف هي الدنيا عليه.. شارف فرج على الخامسة عشرة من عمره من غير أن يعرف أمه أو أباه، ولا يتذكّر إلا الفترة التي قضاها في بيت الشيخ، إلى أن طلب منه القيام بمهمة غير مسبوقة له إذ أمره بركوب «المشدود» - أي الدابة - والنزول إلى البلدة التي تسكنها والدته في تهامة ومعه رسالة لتاجر أبقار يُدعى عطية سوف يلتقي به في السوق الأسبوعي ويسلمه إياها ثم يعود بعد ما يشتري من السوق بعض الفواكه التهامية وبخاصة الموز البلدي، وقشر البن والسمن «المضيمر» - المضاف إليه شيء من أوراق النباتات التهامية - والكادي، وسأل عن صاحب الرسالة حتى عرفه وسلّمه الرسالة التي تتضمن رغبة الشيخ في شراء بقرتين من بقر تهامة المعروفة بجودتها على أن تكون واحدة منها في بداية حملها، والأخرى في نهايته كي لا ينقطع اللبن والسمن من بيت الشيخ، وبينما فرج الذي يتندر عليه عمه بالقول «كل ضيق وله فرج.. إلا ضيقي من فرج» يجوب السوق بحثاً عن المواد التي أمر بشرائها عرّج على بائعة الكادي والريحان والبعيثران والشيح لكي يختار قدراً من كل نوع، ولاحظ أن البائعة تمعن النظر في يده اليسرى لأن فيها ستة أصابع ثم تنظر إلى ملامحه التي جذبتها إليه، قالت له: - من أين أنت يا مخلوق؟.. قال: - من عباد الله.. قالت: - أسألك بالذي لا يسهو ولا ينام من أين أنت وما اسم قريتك ؟.. قال: - أنا من السراة.. قالت: - اسم الله علي، هل يوجد مخلوق ما يعرف قريته؟.. قال: - أراك مهتمة بشيء ما يخصك.. خلصيني أنا ورائي طريق طويل.. قالت: - عندي شعور عميق أنك ابني الذي حملته في بطني، وأجبرتني الظروف الصعبة أن أبتعد عنه، وأصابعك الستة في يدك اليسرى هي التي استرعت انتباهي، فهل أنت عند شيخ قبيلتكم أم في بيت أبيك؟.. ثم سالت دموعها في صمت رهيب وأخذت تكفكفها بطرف ردائها.. قال: - أنا هو يا أماه ثم عانقها بحرارة وسط ذهول من حوله من رواد السوق، وكانت دموعه مدرارة وهو يقبّل يدها، فطلبت منه أن يرافقها بعدما أوصت إحدى صديقاتها ببيع ما تبقى من بضاعتها ومضت مع ابنها إلى دارها وأوصت جاراً لها بذبح كبش سمين، وأقامت وليمة عشاء معتبرة دعت إليها جيرانها ثم سامرت ابنها طويلاً قبل أن يستسلم للنوم، وقد سرته حال أمه التي شرحت له جميع أوضاعها والظروف التي دعتها للتخلي عنه من فرط خوفها عليه.. نسي فرج المشتريات المطلوبة في غمرة التقائه بأمه فطمأنته أنها ستؤمّنها قبل أن يعود، إلا إن كان يرغب البقاء معها فأبى قائلاً: - يا «عيا» الله علي ما «يتعالمون» غامد وزهران أني عديم الوفاء لمن رباني وعلمني وأكرمني.. قالت: - هذا فعل الرجال «النشاما» وأنا أمك لكن أنا أريدك تسلم لي على عمك، وسوف أذهب في الصباح لتأمين كل ما تريد وأزيد عليه كسوة للشيخ وكسوة لك، والله يغنمك السلامة. عاد فرج سالماً غانماً بعد ما تعرض في طريق العودة لقطاع طرق من «رخوم» الخلق، لكنه شتت شملهم وفرق جمعهم.. وسأله الشيخ عن أسباب تأخيره.. قال: - يا الشيخ.. سلّمك الله جئتك من سبأ بنبأ.. قال: - ونقول تسلم.. قال: - الله يلقيك خيراً، أنا لقيت أمي في السوق وكانت فرحة جداً برؤيتي وأصرت عليّ أن أبيت عندها، وما قدرت على رفض أمرها، لأنك علمتني أن الجنة تحت أقدام الأمهات، وقد سلّمتني كسوة لك وكسوة لي، وقامت بشراء المستلزمات التي أمرتني بشرائها ورفضت أن تأخذ مني ثمنها، وهذه الدراهم التي أعطيتني إياها ليس من حقي أن تبقى معي.. قال الشيخ: - بعدي.. والله إنك ونعم.. وأمك بعد ونعم، ومن حقها عليك أن لا تقطعها ومتى ما تبغى الذهاب إليها أنت مسموح ووجهك أبيض وقفاك أبيض. وما أروع لقاء الشتيتين!!