تقول ابنتها خرجت من عملي ظهر الأربعاء الواقع في الرابع من ذي القعدة 1436ه فلما دخلت البيت بحثت عن أمي فوجدتها في المطبخ، فلما دخلت عليها قالت طبخت.... وذكرت أنها طبخت غداء سيعجبها فقالت البنت أريد أن أنام وآكل الغداء العصر، فخرجت من عندها وبعد قليل سمعت صوتاً ونداء فذهبت لأجد أمي في حالة غير حسنة، فجاء أخي نايف وحاول إسعافها فأفاقت وطمأنتنا بأنها بخير ولكنها لم تكن تستطيع المشي بمفردها فأمسكنا بيدها وأخرجناها من المطبخ ولكنها بعد ذلك سقطت فذهب نايف ليدعو الإسعاف وجئت اتصل بإخوتي فجاء أخي عبدالله وبدأ يرقيها ثم حضر الإسعاف وذهبنا بها إلى مستشفى الدلم فحاولوا بحضورنا أنا وإخوتي إنعاشها ولكن بعد قليل كان الطبيب يحاول ثم خرج علينا الطبيب وإخوتي وهم يبكون فعرفت أن أمي فارقت الحياة وأنهينا إجراءات تسلمها ثم ذهبنا أنا وإخوتي إلى المغسلة وغسلناها وصلي عليها صلاة المغرب في اليوم نفسه. هكذا ودعت هذه المرأة الصالحة العابدة العاملة البارة الدنيا. صلت الظهر صحيحة معافاة، وطبخت غداء أهل بيتها، وأدت حقوق بيتها وزوجها المريض منذ خمس سنوات كانت ترعاه فيها خير رعاية ولم تكن ترضى أن تفارقه ولو لدقائق لأي سبب كان. بل كانت تتلمس أسباب راحته وعافيته فتطبخ ما تظن أنه يشتهيه ويأكله. إذ كان العلاج قوياً لا يشتهي معه أكلا. ودعت هذه المرأة الفاضلة الدنيا وهي قريرة العين بمكانة أكرمها الله بها، ورسالة أدتها وإنتاج قرت عينها به، كانت تقية خافية على أكثر من يعرفها حازمة تتحكم في مزاجها وهواها، مدركة لقيمة الدنيا في الآخرة. أبقت بعدها سيرة حسنة ومواقف مشرفة وذرية صالحة. وأنا هنا مما عرفته وسمعته وقرأته مما قاله إخوتي الكرام أبناؤها وبناتها أقف مع مواقف مشرفة وخصال حميدة زينها الله بها. 1 - حفظت الأخت الجوهرة بيت زوجها وقامت على تربية ورعاية أبناء كرام وبنات كريمات كلهم ولله الحمد كانوا على أحسن ما يكون عليه أقرانهم وزملاؤهم. نشأ أولئك الأبناء والبنات بإدارة ومتابعة ورعاية الشيخ الكريم الحازم المربي القدوة والدهم راشد بن سالم الحويطان تقف معه وتعينه وتكمل جهده وعمله هذه العاقلة الحكيمة بعيدة النظر صاحبة الهمة العالية والعزم القوي، فكانت من نتيجة ذلك- ولله الحمد- نجاح الأبناء والبنات كلهم في اختيار الحياة وإثبات الجدارة في بناء أسرة فاضلة والاشتغال بأعمال راقية تسعد العامل فيها في الدنيا والآخرة. 2 - لم تكن هذه الكريمة لتحقق ذلك النجاح لولا توفيق الله وما استقر في قلبها من تقوى وإيمان برغم أنها لم تتعلم ولم تتخرج من مدارس أو جامعات ولكنها لازمت إذاعة القرآن الكريم والمحاضرات والدروس المسجلة فأدامت ذكر الله والاستغفار فجعل الله لها من كل هم فرجا ومن كل ضيق مخرجاً ورزقها من حيث لا تحتسب. 3 - لقد وفقها الله لقيام الليل فحافظت عليه حضراً وسفراً وقامت من أول الليل وأوسطه وآخره حتى إذا أُحرجت بوجوده من تجلس معهم في منزلها كانت تصلي وهم ينظرون إليها. تقول ابنتها: دخلت عليها قبل صلاة الفجر غرفتها فوجدتها تبكي فخشيت أن يكون أصابها مرض فلما سألتها عن سبب بكائها قال: فاتني قيام الليل. وتقول ابنتها كانت الدموع تبلل وجهها وكأنها غشيتها حمى. يا الله لم تبك على صفقة فاتتها أو عدم قبول ابنتها في وظيفة أو جامعة أو فوات حفلة أو مناسبة.. فقط تبكي أن فاتها قيام الليل النافلة السنة.. ماذا يقال لنا ولغيرنا ممن تفوته الفرائض ولا يتحرك له قلب ولا تخرج لها دمعة. ماذا يقال لمن لا يستيقظ من النوم إلا للدوام. أي والله إنها القلوب الحية النابضة المتعلقة بالله. في مقابل قلوب أعمتها الشهوات وضيعها التسويف وطول الأمل. 4 - كرهت الأسواق لما فيها من سوء ومنكرات وأقول باطمئنان مكثت ما يقارب عشرين سنة قبل وفاتها لا تدخل السوق بتاتاً وكل ما تحتاجه يشتريه لها بناتها. 5 - كرهت حفلات الزواج لما يقع فيها من منكرات.. وحينما حضرت زواجاً قبل عشر سنوات من وفاتها ولم تمكث فيه إلا وقتاً قليلاً ورجعت مرضت وتألمت وبكت ثم أقسمت بالله ألا تحضر زواجاً بعده ولم تحضر أي زواج بعده إلا زواج ابنتها ورجعت فيه مبكراً قبل أن ينصرف الضيوف. 6 - كانت بارة بأمها؛ فقد سخرت وقتها لها حينما مرضت فقسمت اهتمامها ورعايتها لها بين مكانين: إن أرادت أمها البقاء في منزلها ذهب عندها وأبو سالم عنده بناته يقمن بالبيت خير قيام. وترجع الجوهرة لبيتها ومعها أمها تمكث عندها أياماً طوالاً تقوم على رعايتها خير قيام غذاء وعلاجاً وغيرهما. وأبو سالم رحمه الله يقدر لها ذلك ويؤيده. فكانت الجوهرة رحمها الله مثالاً حسنا في البر بأمها وماتت وهي بجوارها رحمهما الله تعالى. 7 - على الرغم أنها رحمها الله لم تكن تاجرة أو من أصحاب الأموال إلا أنه لا يبقى في يدها شيء وكانت تنفق مما يصلها من خير حتى إنها جعلت مرتبات خاصة لمحتاجين اقتنعت بحاجتهم تدفعها لهم شهرياً وفوق ذلك كانت تتلمس المحتاجين غيرهم وتوصي بناتها بذلك وتقديم ما يتيسر لهم. 8 - ملأت البيت رحمها الله ذكراً واستغفاراً ورحابة صدر، حتى أنس بها الأقارب والجيران، ولأنها تكره الخروج من البيت وتفضل ملازمته فكان النساء يزرنها ويأنسن بالاجتماع عندها من جيران وأقارب ولا يخرجن إلا بخير الكلام وخير الفعال. 9 - كانت هذه المرأة الصالحة توقر نعم الله وتحافظ عليها؛ تطبخ الكثير والبيت بيت كرم وشهامة قل أن يخلو من ضيوف.. ولكنها كانت تحافظ على النعمة فبعد كل وجبة صغيرة أو كبيرة لديها مع بناتها عمل مهم وهو التقاط جميع البقايا من قطع خبز وغيره وجمعها لتأكلها الحيوانات والطيور وجعلت عندها دجاجاً لهذا الغرض فقط وقد صورتُ ذلك بقولي: 10 - على الرغم من أن زوجها كان حازماً مهيب الجانب قوي الشخصية إلا أنه نشأ بينها وبينه ثقة كبيرة وحباً قوياً وتفاهماً رائعاً لم ينغصه خلاف أو يضعفه اختلاف؛ كان بينهما اتفاق على كل شيء وثقة غير محدودة. تعرف ما يرضيه فتعمله وما يكرهه فتجتنبه، بل تسعى إلى قراءة ما في خاطرة وتلمس ما يريحه ويسعده حتى إن ذلك كان مصدر إعجاب وحب وتقدير من أبنائهم وبناتهم كلهم بلا استثناء.. ومن الطريف أن ثلاثة من أولاد شيخنا أبي سالم كانوا من أم غير الجوهرة كانت قبلها رحمها الله تعالى.. فكان سالم وسعد وأختهم مثل أبناء الجوهرة وقد لا يتصور أكثر الناس أن أمهم أخرى. إن التعامل بين راشد وزوجته كان مثالاً جميلاً رائعاً للثقة والمودة والتعاون. كانت تكره الخروج من البيت كرهاً شديداً وخلال العشرين سنة من حياتها اقتصرت على الخروج لبيوت أبنائها وإخوانها فقط. لكنها تعلم يقينا ماذا يرضي الزوج وما لا يرضيه واستفاد أولادها من ذلك براً وتجارب ناجحة. قلت: 11 - أصيبت بجلطة في الرجل قبل عشرين سنة شلت قواها وقيدت حركتها.. ولكنها لم تكن عائقاً عن عملين شريفين غاية في الشرف هما وكما أسلفت: قيام الليل والمحافظة على السنن ليلاً ونهاراً، فتصلي أغلب الليل والنهار وتحافظ على النوافل كلها. ولا تترك سنة تقدر عليها. القيام بشؤون البيت ورعايته والطبخ حتى أنها - كما أوضحت - طبخت الغداء يوم وفاتها. فلم تكل عمل البيت كله للخادمة ولا لغيرها. رغم إلحاح بناتها حفظهن الله عليها بالراحة واستعدادهن للعمل كله ولكنها كانت ترفض بشدة وتقول تريدون راحتي اتركوني وما أختار. 12 - كانت تصوم معظم السنة: الأيام البيض والاثنين والخميس وكل السنن غيرها. وتقول بناتها كنا نراها أغلب أيام العام صائمة فلا تكاد نفرق بين سنة وأخرى. ومن حسن الختام إن شاء الله تعالى أن أختنا الجوهرة لما بنى زوجها المسجد في حي الناصرية وأكمل قبل بداية شهر رمضان 1436ه كانت تصلي فيه مع زوجها وأبنائها طوال الشهر قيام الليل وتعتكف في المسجد معظم أيام العشر الأواخر ومعها بعض بناتها. هذه الجوهرة بنت إبراهيم الجليفي العابدة الصالحة المصلحة وهذه صور سريعة من حياتها. صور تنبض بالحياة وتشرق بالأمل وتبعث على الاطمئنان تحمل عاجل بشرى المؤمن. أبشروا إخوتي أبناءها وبناتها فقد قرت عينها في حياتها بتوفيق الله لها، وحضر زوجها جنازتها ودعا لها، وأنتم ذخرها بعد موتها، تركت لكم أغلى وأقوى وأثمن الدروس في الصلاح والتقوى والبر والعمل والمحافظة على الوقت والعمر. ملأت عمرها بالصالحات وأمسكت بأيدي من بعدها للطريق المستقيم فعضوا على الطريق المستقيم بالنواجذ وأحيوا هذه العبر في نفوس أبنائكم وبناتكم. كتبت هذه السطور مما علمت عن هذه المرأة الصالحة العابدة البارة، وقد ردد ذلك وشهد به كل من عرفها وحضر جنازتها والناس شهداء الله في أرضه كما ورد في الحديث الشريف. وكان لمكانة أبناء وبنات الفقيدة في نفسي إخوة كراماً وزملاء دراسة وحفاظ وُدٍّ وتقدير أثر بالغ من نتائجه هذه السطور التي تكتبها دموع العين وخفق الفؤاد ونبض الوريد. غفر الله للجوهرة الجليفي وجمعها بأحبابها في الفردوس الأعلى من الجنة وأصلح ذريتها وجعلهم هداة مهتدين ونفعها ببرهم بها بعد موتها. وجزى الله من تعاون معي بهذه المعلومات خير ما يجزي به عباده الصالحين المتقين.