تُمثِّل مواقع التراث العمراني التي تزخر بها مناطق المملكة، بالإضافة إلى قيمتها الوطنية والتاريخية مجالاً واعداً للاستثمار والتنمية الاقتصادية وتوفير فرص العمل. فالكثير من القرى والأحياء التراثية والمباني والقلاع التاريخية تُشكّل بعد تهيئتها وترميمها مشاريع جاهزة لقرى سياحية وفنادق تراثية يتوقع أن تستقطب المستثمرين والزوار وتحقق الآلاف من فرص العمل. وقد تبنى عددٌ من الجهات الحكومية، وفي مقدمتها الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني ووزارة الشئون البلدية من خلال أمانات المناطق شعار «التراث العمراني من الاندثار إلى الازدهار» من خلال البدء في تنفيذ مشاريع لتهيئة مواقع التراث العمراني وترميمها لتصبح جاهزة للاستثمار، والاستفادة من تجربة عدد من الدول الأوروبية في هذا المجال. ويُعد تأسيس «الشركة السعودية للضيافة التراثية» وإطلاق باكورة مشاريعها فندق سمحان التراثي بالدرعية التاريخية النواة الأولى للمشاريع الاقتصادية والاستثمارية التراثية المدعومة من الدولة. فكيف يرى المختصون في التراث العمراني والاقتصاد أهمية ومستقبل الاستثمار في المواقع التراثية؟ نقلة استثمارية في مجال التراث العمراني - يرى الدكتور مشاري بن عبد الله النعيم المشرف على مركز التراث العمراني الوطني، أن مواقع التراث العمراني في العديد من الدول المتقدمة وبخاصة في أوربا تمثّل مشاريع جاهزة للاستثمار الناجح، حيث تشكل عامل جذب للسائح الذي يتوق لزيارة الموقع التاريخي والتعرف عليه والعيش فيه. ويؤكد أن مناطق المملكة تشهد في الوقت الحاضر نقلة استثمارية في مجال التراث العمراني، مما يبشر بنجاح هذه المشاريع مستشهداً بمشاريع تطوير القرى التراثية التي تنفذ حالياً في عدد من مناطق المملكة، ومشاريع أواسط المدن التاريخية، ومشاريع الفنادق التراثية. ويقول: «من خلال استطلاع تجارب الدول الأوربية يتبين لنا أن هذا الاستثمار مُجدٍ حقاً على المستوى الاقتصادي وهو يمثل رصيداً ثقافياً كبيراً لا يمكن التفريط فيه». ويضيف بأن هيئة السياحة والتراث الوطني ووزارة الشؤون البلدية والقروية قطعتا شوطاً كبيراً في إقناع الجهات المالية في الدولة لدعم المحافظة على التراث العمراني، خصوصاً بعد أن تبين لهذه الجهات الجدوى الاقتصادية الكبيرة التي يمكن أن تجنيها الاقتصادات المحلية من تشغيل هذه المواقع التي ستوفر وظائف مباشرة وغير مباشرة، وستساهم بشكل فاعل في التخفيف من نسبة البطالة، مشيراً إلى أن الاتفاقيات التي وقّعتها الهيئة مع الصناديق التمويلية الحكومية أسهمت في تقديم قروض لتمويل مواقع وبلدات ومبانٍ تراثية، ومثال ذلك تمويل بلدة الغاط التراثية وقرية رجال ألمع بمبلغ سبعة ملايين لكل موقع من خلال بنك التسليف، والاتفاقية التي وقعتها الهيئة مع البنك السعودي للتسليف والادخار لرعاية قطاع المنشآت الصغيرة والناشئة في مجال السياحة والآثار، تمثّل انطلاقة جديدة وهامة نحو دعم المشاريع السياحية والتراثية، حيث تم تمويل 44 مشروعاً سياحياً وتراثياً العام الماضي بقيمة تجاوزت 35 مليوناً و673 ألف ريال. الضيافة التراثية عنصر جذب سياحي هام للسائح أما الدكتور ناصر الطيار رئيس شركة الطيار للتطوير والاستثمار السياحي والعقاري (إحدى الشركات المساهمة في الشركة السعودية للضيافة التراثية)، فقد أكد على أن مواقع التراث العمراني التي تتميز بها مناطق المملكة مؤهلة لتكون مشاريع سياحية واقتصادية ناجحة، لا سيما مع تنوع عمارتها وبقاء الكثير منها منذ مئات السنين. واعتبر أن الضيافة التراثية عنصر جذب سياحي هام للسائح، بجانب توفير فرص العمل للشباب السعودي في الفنادق التراثية، وأيضاً للأسر السعودية المنتجة للحرف اليدوية والمفروشات والطعام والهدايا وغيرها. وتوقع أن يكون للشركة السعودية للضيافة التراثية الدور الريادي في قيادة صناعة الضيافة التراثية التي تُعد من أقدم الصناعات السعودية، لا سيما وأن المملكة تمتلك مخزوناً تراثياً كبيراً ومتنوعاً ومتوزعاً في أغلب مناطق الوطن. التراث مهيأ لجذب الاستثمار ويُؤكد الكاتب والخبير الاقتصادي فضل البوعينين أن مناطق التراث العمراني تُعد من أهم عوامل الجذب السياحي، وأن هناك تطوراً ملحوظاً في إقبال السعوديين على زيارتها. ويضيف: «هناك اختلاف ما في ثقافة الشعوب حول أهمية وقيمة التراث، ففي الغرب وبعض الدول العربية ترتفع القيمة المعنوية والمادية والاقتصادية للتراث، حيث تجسّد المواقع التراثية أساساً للجذب السياحي، وبالتالي الاستثمار والانتعاش الاقتصادي، بينما يقل ذلك لدى السائح السعودي، ولكن خلال السنوات القليلة الماضية بدأت تتغير هذه الثقافة مع زيادة الطلب على زيارة المواقع التراثية، فقبل عشر سنوات مثلاً كان أغلب السعوديين لا يبذلون أي جهد لزيارة المناطق التراثية ولكن حدث تغير في ذلك، ربما بسبب التركيز الإعلامي على التعريف بأهمية المناطق التراثية، ومع مرور الوقت ستنتشر تلك الثقافة من الكبار إلى الصغار. وشدد البوعينين على أن «المملكة لا تعاني من ندرة المواقع التراثية ولكنها تعاني بالفعل من قلة التطوير ونقص الخدمات بتلك المواقع، مما يساعد السائح على الجمع بين الثقافة والسياحة والمتعة في مكان واحد. تنمية المجتمعات المحلية ومن جهته يرى الدكتور سالم باعجاجة أستاذ المحاسبة في جامعة الطائف والمحلل المالي والاقتصادي أن المردود الاقتصادي الذي ينتج عن الاستثمار في المواقع التراثية والأثرية، وتأثيره الإيجابي على المجتمعات المحلية وعلى الاقتصاد الوطني بوجه عام، يجعلنا نطالب هيئة السياحة وأمانات المناطق بمضاعفة مشاريع التنمية والتطوير والتأهيل للمواقع التراثية والأثرية الكثيرة الموجودة على أرض المملكة، وتوفير الخدمات السياحية المناسبة من مواصلات واتصالات وإقامة، وخدمات ترفيهية وغير ذلك من أساسيات النشاط السياحي التي تضمن الاستفادة من تلك المواقع، وتحقيق مداخيل من خلال فرض رسوم للزيارة تستخدم في التطوير والتأهيل بشكل مستمر كما هو معمول به في الكثير من دول العالم. ويؤكد الدكتور باعجاجة أن المواقع التراثية بطبيعتها مواقع جاذبة للزوار وتأهيلها للزيارة سيضعها على جدول السائح السعودي والمقيم، ويوفر المزيد من الفرص الوظيفية للشباب العاطلين عن العمل بالمناطق التي تتبع لها تلك المواقع حتى وإن كانت وظائف مؤقتة.