إن كانت الثقافة بشكلها العام هي مجموعة الأفكار التي تشمل (الدين والقيم والمبادئ) التي تصقل النفس والمنطق والفطانة وترسم طريق السلوك الإنساني، فإن ذلك يفترض أن يجعلها ثقافة مفتوحة مرنة، لأنها تشكل مثلثاً مرناً يحمل عدداً من المتغيرات التي يفترض أن تناسب الزمان والمكان. فالثقافة تتجه في مفهومها الأشمل إلى التعبير عن تذوق الفنون الجميلة وتعلم المهارات الاجتماعية والسير وفق نمط متكامل من المعارف الإنسانية متكاملاً مع الثقافات الأخرى في الأهداف والاتجاهات المشتركة. وقد برز مصطلح الثقافة في القرن العشرين ليصبح هو المفهوم الأساسي والمكون المنهجي لعلم الانثروبولوجيا ليشمل بذلك كل الظواهر البشرية التي لا تعد كنتائج لعلم الوراثة البشرية بصفة أساسية. وبما أن فلسفة الثقافة هي أحد فروع الفلسفة التي تنظر في جوهر ومغزى الثقافة باعتبارها مفهوماً شائكاً معقداً كتعقيد الوجود الإنساني، فقد كانت الفلسفة دعوة لتحرير ذلك العقل من وثوقه المطلق في كل ما آمن به من قبل، وفتح ذلك الصندوق المغلق على الأوهام الكبيرة في دماغه، فبدلاً من أن تكبر الأسئلة في عقل الإنسان دون يكبر معها ويبقى على كل ما تشبع به في طفولته ومختلف مراحل نشأته فإن الفلسفة تدعوه لأن يتعلم ممن يختلفون عنه، ويعارضونه، فالفلسفة هي إعلان عن شوق الإنسان العميق والمتلّهف والدائم بأن يعرف كل شيء كما يقول الدكتور إبراهيم البليهي. يقول الدكتور إبراهيم البليهي في كتابه حصون التخلف عن كيفية استطاعة أوروبا بأن تنفلت من قبضة ثقافاتها القديمة وأن تنفتح على الآفاق وأن تبدع كل هذه الإبداعات المذهلة: « في القرن السادس قبل الميلاد ظهر في اليونان الفكر الفلسفي كضوء باهر لم تكن أبصار البشر ولا بصائرهم قادرة آنذاك على التعايش معه ولا الإصغاء إليه ولا إدراك أهميته ولا معرفة مصدره وكيفية انبثاقه العجيب وما يزال العالم حائراً ويتساءل بمنتهى التعجب: كيف أشرق ذلك الضياء الباهر وسط تلك الظلمات الثقافية الحالكة!!؟ ويمكن اختصار الإجابة بأنها عبقرية الحرية وصراع الأفكار وولادة الحقيقة من هذا الصراع فلا يختلف اليونانيون عن بقية البشر ليتفردوا ذلك التفرد العجيب الباهر إلا بأنهم الشعب الذي وجد نفسه حراً وتوفرت له بعض الظروف الملائمة فاستطاع بأن يفكر بصوت مسموع وأن يعبر عن آرائه ومواقفه بمنتهى الصراحة والوضوح وأن يدير بكفاءة عجيبة صراع الأفكار وأن يستخرج أروع ما تتمخض عنه العقول حين تتمتع بالحرية. وأروع ما بدأ به الفكر الفلسفي آنذاك في مرحلة تأسيس الثقافة الفلسفية في اليونان هو أنه أعلن منذ البدء بأنه ليس لديه من المعارف والحقائق ما يطمئن به الناس، فهو لا ينقل العقول من مستوى الغبطة والاستسلام والوثوق في ثقافاتهم الموروثة إلى مستوى مماثل من الغبطة والوثوق والاستسلام للفكر الجديد، وإنما هو منشغل بتحريك العقول وإثارتها وحفزها إلى التساؤل والتحليل والمراجعة والإهابة بهم بعدم الوثوق المطلق في أية معرفة بشرية فمعارف البشر تظل ناقصة مهما تعددت وسائل التحقق». وحيث أن الناس بشكل عام دوماً يثقون في ما تشربوه من ثقافات نشئوا عليها في بيئاتهم ومن مجتمعاتهم وتربوا عليها ويظنون أن ما يملكونه هو المعرفة الحقيقة الوحيدة في العالم ويعتقدون أن ما عدا ذلك هو خزعبلات غير صحيحة وأوهام فإنهم بذلك يحكمون على أنفسهم بالبقاء تحت سطوة الجهل المركب طوال أيام حياتهم، ويقفون في وجه كل تطور ثقافي وانفتاح علمي ولم يدركوا أن ذلك يشكل مأساة العقل، فالعقل الراكد يشوبه الفتور، بينما العقل المفكر المنفتح حقق للبشرية ما كان يشكل معجزة في أزمان مضت، حيث كان الناس يكتفون بما تنتجه الطبيعة لهم لا أكثر. لذلك فإن الثقافة الفلسفية اليونانية قد شكلت طفرة ثقافية حقيقية إذ كشفت عن تلك الحواجز الصعبة التي تمنع التقارب الإنساني الحضاري وكشفت عن معضلة كبرى تتشكل في سجن العقل في قفص أوهامه. وقد كانت البداية باعتراف فلاسفة اليونان بجهلهم، وقد كانت تلك حقيقة صادمة للناس آنذاك، إذ من الصعب أن تعرّي عقلك من ثقافاته وما تحويه تلك الثقافات من معتقدات وعلوم ومبادئ وقيم وتعترف بأنك جاهل وأن عليك مراجعة كل تلك الثقافات بما تواجهه من النقائض الثقافية والعلمية. لقد كان إعلان كوبر نيكوس أن الأرض ليست مركز الكون وإنما هي مجرد كوكب صغير يدور حول الشمس صدمة لكل تلك المسلّمات العقلية التي لم تخضع يوماً للتحليل والمناقشة والمنطق، لقد زلزل تلك المعتقدات والمفاهيم التي طالما ظن الناس أنها حقائق علمية لا تقبل الجدال إطلاقاً، وهو ما أدى إلى غليان فكري في أوروبا ظهر بعده برونو وفرانسيس بيكون وديكارت وغيرهم من المفكرين الرواد ثائرين على الثقافة السائدة وداعين إلى إعادة تأسيس وتكوين للثقافة الأوروبية على أن تكون على أسس فلسفية وتجاوبت أوروبا مع تلك الثورات الفكرية والطفرة الثقافية للمفكرين ونقلت نفسها من حالة الانغلاق الفكري الثقافي إلى الانفتاح على الغير فوجدت نفسها تنتقل إلى إجراءات حضارية أخرى مثل الانتقال من التعصب إلى التسامح ومن الجمود إلى النشاط ومن الحجر على العقول إلى استنفار أقصى طاقات الفكر. (1) لقد سُمي عام (1543م) عام العجائب حين ظهر كتاب فيساليوس عن تشريح جسم الإنسان، إذ هدم بذلك الكتاب كل ما كان الناس يتوارثونه من جالينوس فيقول ول ديورانت: «ثورة علمية من صنع فتى لم يتجاوز التاسعة والعشرين (فيساليوس) وهي ثورة لأنه أنهى سلطان جالينوس على التشريح وراجع العلم كله بلغة التشريح وبهذا أرسى دعائم الأساس الفيزيائي لهذا الطب الحديث». ولأن الفلسفة هي لفظة يونانية مركبة من جزأين «فيلو»، بمعنى «حبّ»، و»سوفيا»، بمعنى «حكمة»، أي أنها تعني - في الأصل اليوناني - «حب الحكمة «وليس امتلاكها. ولأن الفلسفة تبحث دائماً في قضايا جوهرية تخص حياة الإنسان مثل الموت والحياة وأحياناً في أصل الوجود الإنساني كما كان يبحث أطاليس فإن ذلك يرتقي بطموحات الإنسان وينوع نشاطه وقراءاته ويحثه على التعدد والتنوع الثقافي الذي يؤدي في نهاية المطاف إلى نهضة الفكر، وقبل أن يحقق الإنسان نهضة الفكر فإن كل ثقافاته التي نشأ عليها وعلومه التي استقاها سوف تصبح يوماً ما ثابتة وغير قابلة للتطور والانفتاح فتشبه بذلك الأوهام حتى وإن كانت في بعض الأحيان حقيقية! وحيث إن المجتمعات العربية على وجه الخصوص تحمل (ثقافة صماء) لا تقبل الانفتاح على ثقافات الآخرين فإن علم الفلسفة لم يجد حظوته حتى الآن في الثقافات العربية المعاصرة، بل إن المفكرين العرب مازالوا يعانون أكثر مما عانى منه فلاسفة اليونان في بداية عهدهم الفلسفي، والعرب بهذا غير مدركون إطلاقاً لأهمية ذلك الفكر والانفتاح ولا يأبهون لاكتشاف علوم جديدة ومازالوا يتفاخرون بعرب آخرين كانوا مجتهدين لكنهم لم يجدوا من يكمل عنهم اجتهادهم بعد أن رحلوا كالخوارزمي وابن رشد وغيرهم. إن العرب حتى الآن لا يعرفون أن حضارة الإنسان مرتهنة بمقدار ما يتعلمه من الآخرين، فالصورة الذهنية لدى العرب عن الفلاسفة وتفكيرهم الوجودي جعل بينهم وبين المفكرين والفلاسفة حاجزاً نفسياً يمنعهم من قبول تلك العلوم. وهذا بطبيعة الحال يرجع إلى الثقافات والأوهام التي استقوها وتشربوها في صغرهم بسبب ضعف العلوم والمصادر العلمية وما أدت إليه اليوم مع حالة الانفتاح والتقدم إلى الأمام من ظهور أصوات تدعو إلى العودة للوراء مجدداً والهروب إلى العزلة عن العالم بما فيه! ولعل العرب حتى الآن لم يدركوا أن الفلسفة تعمل على إصلاح أوجه الفكر والتفكير أكثر من كونها تعطي المعلومات، فحتى الفلاسفة الوجوديون لم يؤكدوا يوماً أو ينفوا حقيقة ما حول الوجود الإنساني، بل أنهم كانوا دائماً في حالة شك تبحث عن يقين، وهذا ما يفسر وجود نظريات مناقضة لنظريات أخرى من أصحاب النظرية أنفسهم، فهو ليس شتاتاً فكرياً بقدر ما أنه اكتشاف جديد وعلم آخر قابل للشك والفحص والتنظير. ولأن إزالة الأوهام والقناعات الراسخة أصعب بكثير من إضافة العلم، فقد عانى المفكرون العرب من عملية خلق التساؤلات في عقول العرب، فالثقافة السائدة لدى العرب عامة ولدى –السعوديون- خاصة هي أن التساؤل يجر إلى تساؤلات أخرى أكثر عمقاً وهذا ما يقود إلى التشكيك في الثوابت الدينية مما يجعل الفرد ينفر عن علوم الفلسفة التي لم تسعى لتزويد الناس بالمعلومات بقدر ما كانت تسعى لتحفيز أفكارهم وتعليمهم بعض الدلالات الفلسفية لدمغ بعض المعتقدات الراسخة في الأذهان والمستقرة في العقول على أنها حقائق مُسلَّمة، لكنها معتقدات خاطئة جعلت الأسئلة تكبر في العقول والإنسان يتحاشى طرحها بخوف أو بلاهة! وحيث إن العقل يتلقى الأسبق إليه من المعارف فيتشكل وجدان الإنسان المعرفي الثقافي، وتلك هي الثقافة التلقائية، فإنه ليس من المستغرب أن تجد الفلسفة هذا الرفض الثقافي الشديد وعدم الاعتراف بوجودها كبنية أساسية في جدار العلم والحضارة، حتى وإن تم تدريسها على مضض واستحياء في التعليم العام، إلا أن الأهم هو البناء الثقافي الوجداني للجيل الجديد وقبل أن يبلغوا سن السادسة، فمن يأتي للمدرسة مدججاً بالثقافات التلقائية الغير قابلة للانفتاح لن تقنعه العلوم والحقائق العلمية ولن تشكل له أي إثارة علمية ملهمة تحفز عقله على الإبداع والابتكار المستقبلي، بل سيأخذ علومه على طريقة (اسمع من هنا، وطلع من هنا) مع الإشارة للأذنين بالإصبع! ** ** ** (1) المصدر كتاب الدكتور إبراهيم البليهي (حصون التخلف). - عادل الدوسري [email protected]