عرف الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو بأنه فيلسوف العامة، وينتصر روسو للعفوية والبراءة عبر مقولاته «الإيمان في خدمة النفس، الدين في خدمة المجتمع، المجتمع في خدمة الفرد»، الأمر الذي يخرج برأيه أي فعل يتضاد والطبيعة البشرية أو يضر بالبيئة عن السياق الديني بدءًا بأصغر الأمور وهو إلحاق الأذى بالنفس بأي صورة أو المحيط حتى ولو على سبيل الظفر بمزيد من سبل الرفاهية للبشرية أو عبر ما باتت تعانيه البشرية وخصوصًا المجتمعات العربية والإسلامية من تفشٍ لثقافة الإرهاب والعنف واحتكار الحق والصواب للذات وإقصاء الآخر نحو دائرة الكفر والضلال. وإن كان الإطار العام لاشتغالات روسو الفلسفية كان يصب في خانة دحض ما جاء به الفلاسفة الماديون. وفي الوقت الذي يشيد روسو بحركة عناصر الطبيعة المتناغمة مع احتياجاتها وعوامل تكاملها ينتقد فوضى الكائن الوحيد العاقل الإِنسان: «كل شيء في الطبيعة تناسب وتكامل، وكل شيء في دنيا البشر اضطراب وفوضى. عناصر الطبيعة في تعاضد دائم وبنو آدم في تناحر مستمر». وهو يؤكد في موضع آخر بأن الفرد لا يسعى إلا لضمان سعادته، وأن أعلى صور السعادة هي رضى النفس عن ذاتها، وهذا هو أهم أركان الحداثة، كما جاء في كتابه «دين الفطرة»، الذي يضعه الغربيون في سياق فلسفة الدين، وقد نقله إلى العربية، عبدالله العروي عبر منشورات «المركز الثقافي العربي»، عادًا موضوع الكتاب تقليديًا بالنسبة للقارئ العربي، المسلم وحتى غير المسلم فهو يقرأ ردود روسو على الفلاسفة الماديين فيستحضر في الحين نفسه مثلاً الغزالي وكتابه «تهافت الفلاسفة». غير أن ما يجعله مختلفًا برأيه هو أن روسو يضمن معاني جديدة لألفاظ عادية مثل: إيمان، تصديق، بداهة، إخلاص وغيرها. ويعرف روسو مفهومه ل«دين الفطرة»، بأنه كل ما يمكن أن يهدينا إليه نور العقل في حدود الطبيعة هو دين الفطرة الذي عمل على تنقيته من شوائب الاتباع والتقليد حتى يظل بريئًا نقيًا صافيًا كما خرج إلى الوجود وحتى ينعكس فيه، مباشرة وبصدق، خطاب الخالق والصانع الأول. ويشير المترجم إلى وجود مؤشرات كثيرة على أن روسو لم يكن يحمل أي عداء مبدئي للإسلام بل أكبر الظن أنه ربما أدرك أن مفهوم دين الفطرة أقرب إلى العقيدة الإسلامية منه لليهودية أو المسيحية من منظوره. وقد دعا روسو عبر الكثير من الآراء التي بثها إلى التقشف والتعفف، وإلى ضبط طموح العقل البشري، وكذلك إلى تفضيل القناعة وطمأنينة النفس على المغامرة والقلق، ومسايرة الطبيعة لا معاكستها، ومعالجتها لا استنفادها. وحول عدم الاتكاء على أحكام العقل وترجيحاته كمنطلق للحكم على الأشياء يرى روسو بأن الحقيقة في الأشياء وليست في الأحكام التي يصدرها العقل بشأنها وهو يعد بأن الأفكار العامة المجردة هي ما أسقط البشر في مهاوي الأخطاء، فعندما يحدثك مثلاً إنسان عن قوة عمياء منتشرة في الطبيعة، هل يغني عقلك بفكرة حقيقية؟ هو يظن أنه يعني شيئًا حين ينطق بعبارات مبهمة مثل قوة كونية أو حركة اضطرارية والحال أنها كلمات جوفاء. الحركة تعني الانتقال من مكان إلى آخر، ولا حركة من دون وجهة كما يقول أيضًا، أينما ملت تجلى لي الرب في أفعاله. أشعر به في ذاتي وأراه في كل شيء خارج ذاتي. ومن طبيعة النفس البشرية أن تحب ذاتها، فكيف لا تقدس تلقائيًا من يرعاها، كيف لا تحب من يسدي لها الخير؟ الروح، هذا المفهوم السامي الذي لم يكن عرض لي بعد. بدا لي وأنا أتأمل طبيعة الإنسان أنه ينطوي على عنصرين مختلفين. أحدهما يجذبه نحو الحقائق الأزلية، يدعوه إلى حب العدل والفضيلة، إلى اقتحام العالم العلوي الذي يبهج قلب الحكيم، والثاني يربطه بذاته السفلى، يجعله أسير حواسه، مطاوعًا لأدواتها أي الشهوات، معاكسًا بذلك كل ما يلهمه العنصر الأول. أن اختار المرء الخير في سلوكه أصاب الحق في حكمه، وإن حكم بالباطل مال إلى ارتكاب السوء. ويتساءل: ما المتحكم في الإرادة؟ قوة التمييز. ما الباعث على التمييز؟ قوة الإدراك، القدرة على الحكم. لا شك في أني لست حرًا إلا اختار ما هو مفيد لي، كما أني لست حرًا أن اختار ما هو سيئ لي. لكن حريتي هي بالضبط إلا أريد إلا ما يوافقني. أو ما يبدو لي كذلك. ويخلص إلى أن الإنسان فاعل حر، وما يفعله بإرادة حرة لا يدخل في النظام الذي اختاره الخالق بتدبيره وحكمته، فلا يجب إضافته إليه. فالإله المدبر للكون، لا يريد الشر الذي يقترفه الإنسان بالإسراف في استغلال الحرية المخولة إليه. لا يمنع حدوثه، إما لأنه بلا تأثير نظرًا لتفاهة فاعله، وإما لأن منع الشر لا يتم إلا بنفى حرية البشر وهو شر أكبر إِذ يطعن في قيمة الإنسان الذي أوجده لا ليفعل الشر بل ليقبل على الخير مختارًا.