يتزامن هذا المقال عندي مع ذريعتين: الأولى أننا الآن في حضن «رمضان» الحاني، هذا الشهر الذي يغمرنا بالإيمان والرحمة ويغسلنا من رهق الشهور الدنيوية الأحد عشر. والذريعة الأخرى هي ما شاع من تزايد الحديث عن الشك والإلحاد بين الشباب، والتساؤل إن كان عددهم حقاً في ازدياد أم أن جرأتهم على إعلان شكوكهم هي التي زادت؟ ومن دون الدخول في جدلية شطري السؤال فإن نشوء التساؤل ذاته هو مبعث قلق كافٍ للمؤمنين. هنا بالذات تكمن فرادة هذا الكتاب لجان جاك روسو. فالكاتب فيلسوف، ولطالما عُرف الفلاسفة بإسهامهم القديم في تعزيز نوازع التشكيك وتقويض فكرة الإيمان الفطري. أما كتاب روسو هذا فهو إيماني فطري خالص، ولذا فضّل مترجمه إلى العربية المفكر عبدالله العروي أن يجعل عنوانه: (دين الفطرة)، عوضاً عن العنوان الأصلي: عقيدة قس من جبل السافوا. لماذا يعمد المفكر العربي الكبير إلى ترجمة هذا الكتاب، شبه المنسي الآن، لكبير مفكري عصر الأنوار (القرن الثامن عشر)؟! يقول سعيد بنسعيد العلوي، في قراءة نقدية صحافية للكتاب، أن ترجمة العروي لهذا الكتاب ليست اعتباطية، كما يعبّر العروي أيضاً في مقدمة الكتاب، بل هي ذريعة من أجل تفكيك بعض مشكلات الوجود الفكري العربي اليوم. وأفضّل أنا من جانبي، حتى أنسجم مع ذريعتي التي ذكرتها أعلاه، أن أختطف الهامش الذي وضعه المترجم / العروي في الصفحة 89 من الكتاب في تعليقه على حديث روسو عن دين الفطرة، بالقول: «دين الفطرة هو وقاية ضد انتشار الزندقة المؤدية إلى الإباحية والفوضى الأخلاقية. ففي ظروف أوروبا القرن الثامن عشر لم يعد الخيار بين الكاثوليكية والعلمانية بقدر ما أصبح بين دين الفطرة (عقيدة القس) والإلحاد». الكتاب (الصادر هذا العام 2012عن «المركز الثقافي العربي») رشيق ودسم في آن .. رشيق في أسلوبه ودسم في أفكاره، على عكس المعهود من كتب الفلاسفة وبالذات في الماورائيات. لن أجازف بنصح الشاب المؤمن بقراءته، لكني ومن دون تردد سأنصح كل من لديه ارتخاء إيماني بقراءته. هو غير مهم للمؤمنين قدر أهميته لمساندة الحائرين في معرفة الطريق إلى الله. لكن كيف نعوّل على موعظة من فيلسوف؟! نتجرأ في التعويل على موعظة فيلسوف هنا لسببين: الأول أن الذين يعانون من التيه الإيماني لا تُمثل لهم أحاديث الوعاظ أية قيمة لأنهم أصبحوا خارج نسقها. والثاني أن منابع سقيا التيه والشك تصب في الغالب من عند الفلاسفة. فكيف بتأثيرها البالغ إذا عمد التائهون إلى فيلسوف فصبّ عليهم موعظة رطبة تخفف عنهم جفاف الشك وعطش التيه! تتعاظم نفثات روسو في كتابه هذا بتأثير أعراض تجربة التحول من البروتستانتية إلى الكاثوليكية ثم العودة بعد سنوات من مرارة التجربة الكاثوليكية إلى الكالفينية. وقد انعكست آثار هذه التجربة خصوصاً في الفصول الأخيرة من الكتاب. تجربة أخرى، لا تقل أهمية عن الأولى، كان لها أثرها الكبير في مسار الكتاب بل ربما كانت هي الباعث الأساسي لتأليفه، وهي مادّية باريس التي أزعجت المواطن من جنيف (كما يحب روسو أن يسمي نفسه). السنوات التي أمضاها روسو في باريس جعلته يتساءل، بعد أن عاشر الفلاسفة العلمانيين وتجادل معهم كثيراً وتخاصم أكثر مع الفيلسوف الفرنسي المدلل فولتير، إن كانت هذه الصيغة المادية بديلاً شافياً عن الدين التقليدي، كما يشير العروي. وسيبدو سؤال روسو، لمن أتيح له العيش في باريس الآن، أكثر مشروعية وإلحاحاً. فالحالة الدينية الخاملة التي تعيشها باريس الآن هي بحقّ تَمَثُّل نموذجي للمآلات التي كان يستشرفها جان جاك روسو للروحانية الفرنسية منذ قرابة ثلاثة قرون. ولهذا أتساءل: ألا يستحق الشعب الفرنسي الآن مبادرة إنعاشية لكتاب روسو هذا، مثل مبادرة عبدالله العروي؟! سأختم مقالتي هذه، بعرض مقاطع وعبارات من الكتاب، ولن أتدخل إلا بوضع عناوين لها وتعليقات ما بين قوسين ( ) فقط: البند الأول من عقيدتي: «وراء حركة الكون ونشاط الطبيعة توجد إرادة، على هذا المبدأ أشيد عقيدتي فهو بندها الأول». تحدّي الإبهام والإيهام: «أن يكون الكون فوضى فكرة تبدو لي عصية على الفهم أكثر من أن يكون فيه تناسب. أقبل بسهولة أن يعجز العقل البشري عن إدراك سر الكون، لكن من يتجرأ ويدعي أنه فك ذلك اللغز فمن واجبه أن يقول قولاً مفهوماً». البند الثاني في عقيدتي: «إن كانت حركة المادة تدل على وجود إرادة فإن المادة المتحركة حسب قوانين ثابتة تدل على عقل. هذا هو الركن الثاني في عقيدتي. الفعل، المقارنة، الاختيار، هذا ما لا يقوم به إلا كائن فاعل عاقل. ذلك الكائن موجود إذاً». عقل أسمى من الصدفة: «هل يخفى على أي ناظر منصف أن النظام الظاهر في الكون ينبئ بوجود عقل أسمى؟... ليحدثني من أراد وطالما أراد عن المصادفة والاتفاق، قد يفحمني من دون أن يقنعني، ماذا يفيد ذلك؟!» الصدفة لا تفكر: «رغم تحذلقهم (يقصد علماء الطبيعة) لا أستطيع تصور مجموعات من الكائنات منتظمة انتظاماً قاراً من دون أن أفترض أن عقلاً هو المسؤول عن ذلك الانتظام. لا أستسيغ رغم جهودي الصادقة أن تكون المادة الجامدة الميتة قد أنتجت كائناً ذا حياة وإحساس، أن يكون الدهر قد أبدع من غير قصد كائنات عاقلة وأن ما لا يفكر قد أنشأ كائناً يفكر». استسهال الخوض في ماهية الرب: «هذا الكائن المريد القادر، هذا الكائن الفعال بذاته، الذي يحرك الكون وينظم الأشياء أطلق عليه اسم: الرب،... وعياً مني بهذا التصور لن أجادل أحداً قط في ماهية الرب .. مثل هذا الجدل مخاطرة كبيرة، لا يليق بعاقل أن يتجرأ عليها إلا بكثير من الحذر والخشوع إيماناً منه أنه غير مسلح للتدقيق في هذا الأمر». توقير الله: «أكبر استخفاف بالرب ليس الغفلة عنه بل التفكير فيه بما لا يليق». خشوع البحث عن الله: «خلاصة القول أني كلما اجتهدت لفحص جوهر اللامتناهي زدته غموضاً وعجزت أكثر فأكثر عن تصوره. إلا أنه بالنسبة لي موجود، وهذا كافٍ. كلما تراجع فهمي زاد خشوعي». روسو والأديان الثلاثة: «تتقاسم أوروبا ثلاث ديانات رئيسية، إحداها تؤمن برسالة واحدة، الثانية برسالتين، الثالثة بثلاث رسالات...، الديانة التي لا تقبل سوى رسالة واحدة (أي اليهودية) هي الأقدم وتبدو الأوثق. الديانة التي تقبل ثلاث رسالات (أي الإسلام) هي الخاتمة وتبدو الأكثر اعتدالاً واتّساقاً، التي تقول برسالتين (أي المسيحية) قد تكون الأفضل لكنها تصدم البديهة، والتناقض في معتقدها واضح لكل ناظر». روسو وإيمان العجائز: «هذا هو الوضع الذي أجد فيه نفسي اليوم، وضع شك اضطراري غير مرغوب فيه (حال كثير من شبابنا اليوم). أتحمله من دون عناء لأنه لا يؤثر في سلوكي ولأني مطمئن كلياً إلى المبادئ التي تحدد واجباتي. أعبد الرب عبادة رجل ساذج. أحصر معارفي في ما يخص السلوك. أما العقائد التي لا أثر لها في الأفعال والأخلاق، تلك التي تقضّ مضاجع عامة الناس، فإني أهملها بالمرة». تلك كانت بعض قائمة طويلة من الاقتباسات التي استخلصتها من كتاب روسو، ثم ضاقت مساحة المقال عن إيراد معظمها. كتاب «دين الفطرة» مهم وضروري لمن هم في حاجة إليه. اللهم ارزقنا إيماناً لا شرك فيه .. ويقيناً لا شك فيه. * كاتب سعودي [email protected] Twitter| @ziadaldrees بهذا المقال يتوقف الكاتب، في إجازته السنوية، ويعاود في مطلع شهر أيلول (سبتمبر) بإذن الله تعالى.