من الإنصاف أن نعترف للرئيس التركي رجب طيب أردوغان بالكثير من الفضل في إحداث تحولات جذرية في سياسات الدولة التركية قربت تلك الدولة من قضايا العرب والمسلمين. فقد كان مصطفى كمال أتاتورك الذي ألغى الخلافة العثمانية وأسس الجمهورية التركية قد يمم وجه تركيا نحو الغرب كلياً واستبدل الحروف العربية التي بقيت لغة الأتراك تكتب بها على امتداد مئات السنين بالحروف اللاتينية، كما سعى إلى تنقية اللغة التركية بقدر المستطاع من المفردات العربية التي دخلت إليها بفضل القرآن الكريم والشريعة الإسلامية، كما فرض على المواطنين الأتراك استبدال الزي الشرقي بالزي الأوروبي، وحرم على الطالبات والمدرسات والموظفات لبس الحجاب داخل المدارس والجامعات وفي الدوائر الرسمية. لقد أقام أتاتورك نظاماً علمانياً على النمط الغربي من حيث تحييد الدين عن السياسة ولكنه لم يتبن النظام الديمقراطي الغربي القائم على جعل القرار بيد الشعب في انتخاب من يتسلم زمام القيادة ويدير دفة الحكم، بل وضع مقاليد السلطة الفعلية في البلاد بيد كبار ضباط الجيش الذي حرص على تطهيره كلياً من الضباط المتدينين ومن تأثير الدين الإسلامي. أما على الصعيد الخارجي فقد أدارت تركيا الأتاتوركية ظهرها بصورة شبه كلية لجوارها العربي والمسلم وتوجهت نحو الغرب لكي تتحالف معه وتستلهم منه معظم مناهجها وسياساتها، كما دأب الأتاتوركيون الممسكون بزمام الحكم على غرس المفاهيم والقيم الغربية مكان القيم الإسلامية والابتعاد إلى حد القطيعة عن الموروث الثقافي الإسلامي. لقد مكثت روح الإسلام مكبوتة في الصدور لعشرات السنين في ظل الحكام الأتاتوركيين، ولم تنبعث مجدداً بقوة في جسد الأمة التركية إلا بعد استلام أردوغان لمقاليد الحكم، وكان من نتائج ذلك التحول الكبير أن قطعت تركيا شوطاً طويلاً في التصالح مع تاريخها العثماني التليد، والتفتت إلى جوارها العربي والمسلم وانفتحت عليه. ولعل أهم ما ميز عهد أردوغان هو ذلك النجاح الباهر في الموالفة ما بين الالتزامين يعتقد الكثيرون منا أنهما متناقضان، أي الالتزام بالإسلام ديناً وفكراً وانتماؤه من جهة والالتزام بالديمقراطية البرلمانية كنظام حكم لم يجد أردوغان وحزبه الإسلامي أنه يتناقض مع الشريعة الإسلامية بل وجده منسجماً مع نظام الشورى الإسلامي من جهة أخرى، ناهيك عما حققته تركيا في عهد أردوغان من قفزات اقتصادية وتنموية كبرى في شتى المجالات وعلى الأخص في مشروعات البنية التحتية العملاقة من مطارات وقنوات مائية وأنفاق وسكك حديدية، إضافة إلى تمكن حكومة أردوغان من استدراج استثمارات خارجية ضخمة تم ضخها في اقتصاد البلاد. ولكن من جهة أخرى فإن طوال مدة مكوث أردوغان وحزبه في السلطة قد أدى إلى ترهل التجربة الديمقراطية، فما لبثت أن انتشرت روائح كريهة لقضايا فساد مالي من قبل بعض المسؤولين مصحوبة بظواهر المحسوبيات والاستئثار والمحاباة. ومن المعروف أن مثل هذه الأعراض الجانبية قد تشوب الأنظمة الديمقراطية كلما أتيح للمسؤولين أن يطيلوا فترات جلوسهم على كراسي الحكم أكثر من اللازم، وهو ما اصطلح المفكرون على تسميته (عث السلطة) الذي ينشأ عن نزوع المسؤول الذي يطول به المقام في الكرسي الوظيفي إلى التبلد الأخلاقي وإلى الاحتماء بشبكة علاقات نفعية تجعله بمنأى عن الحساب والمراقبة الصارمة. كما تبين أن أردوغان نفسه يطمح ويسعى إلى الحصول على مزيد من السلطات الرئاسية التي تتيح له التمتع بسلطات واسعة جداً تمكنه من فرض نفسه كحاكم متسلط يسهل عليه التعامل مع الخصوم والمعارضين السياسيين بقبضة من حديد على غرار ما استطاع بوتين أن يفعله في روسيا. إن الزهو والغرور الشخصي وطلباً لمزيد من الصلاحيات والسلطات وسعي أردوغان الحثيث إلى تغيير نظام الحكم إلى رئاسي لم يلق استجابة من قبل الناخب التركي الذي فضل ألا يعرض مكتسبات النظام الديمقراطي الغض إلى التقلص والضمور تلبية لطموحات ذلك الزعيم الكبير. لقد وضعت إرادة الجماهير في الانتخابات الأخيرة حداً فاصلاً لطموحات أردوغان السلطوية، وحالت دون تحوله من قائد شعبي يستمد شرعيته من محبة الناس له إلى حاكم متسلط يحمل بيده عصى غليظة حيث انكسرت عصاه أمام إرادة الجماهير ولم يعد ملوحاً بها كلما اشتط غضباً بوجه خصومه ومعارضيه، وهذا ليس من حسن حظ مسيرة النظام الديمقراطي في تركيا فحسب، بل ولا في صالح أردوغان أيضاً، وذلك كي ينصفه التاريخ فلا يدخله في خانة الحكام الطغاة والساسة المستبدين، بل يمجده كرجل تسلق السلم بجدارة من ابن لأسرة فقيرة إلى قائد ناجح لدولة مهمة وكبيرة.