استطاعت بنقلاديش بمستشار كوري يُشرف على عمل مائة وعشرين بنقاليا كانوا قد تدربوا لستة أشهر في كوريا، أن تحقق من الأهداف التنموية للابتعاث والمستشارين الأجانب، مالم تستطع دول الخليج تحقيقه باستجلاب آلاف المستشارين الأجانب وبابتعاث مئات الألوف من أبنائها. ووضع الخليج لا يبعد كثيرا عن بنقلاديش فترة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، لولا ثرورة النفط. والمقارنة بين كوريا والفلبين توضح أصل عمود مُرتكز شاهدي في المقارنة بين بنقلاديش والخليج. فقد كانت الفلبين، قبل الحرب العالمية، بمراحل تضاعفية، أعظم من كوريا اقتصادا وأعمق منها بنية اقتصادية وتعليمية وثقافية. فلعقود قبل الحرب، كانت الفلبين محظية أمريكية مُدللة، بينما كانت كوريا تئن أسيرة تحت الحكم الياباني، الذي أفرط في استغلاله لشعبها ولمواردها الطبيعية. هذه الحظوظ المقدرة، دُفعت أثمانها بعد الحرب، رغم زيادة الحظوة وتغليظ الحلف. فلم تفقد الفلبين حظوتها الأمريكية، بل امتدت حتى نالت كوريا الجنوبية حظوة أمريكية مُماثلة، فاجتمع البلدان كلاهما، فدخلا تحت المصالح الاستراتيجية الأمريكية في محاربة الاشتراكية. والتاريخ يشهد للسياسية الأمريكية حرصها على تقوية حلفائها وإثرائهم، ما لم يصل الحليف لحد المنافسة على تاج الامبراطورية. كما أن السياسة الأمريكية مع حلفائها، غالبا ما تُقدم قاعدة «أهل مكة أدرى بشعابها»، فتتنازل السياسة الأمريكية عن المفهوم الأمريكي للحريات والعدالة مقابل ضمان تحقيق مصالحها الاستراتيجية. فبالرغم أن حظوظ البلدين التي أنقذتهما من الاشتراكية فأدخلتهما في الحلف الأمريكي قد تساوت بعد الحرب، إلا أن ماضيها قد أدرك حاضرها ليحقق المساوة القدرية الكاملة. فطريقة حكم اليابانيين وقسوتهم، زرعت وحدة الكلمة والولاء والشدة في الثقافة الكورية، فخلقت هذه الثقافة قيادة كورية صارمة حازمة، وحدت القرار فلم تعترف بتعدد الرؤى والأهواء. فاستغلت المساعدات والاستشارات الأمريكية لتفوق اقتصادي مذهل أخرج كوريا من جفرة الفقر والعدم، لتحتل مكانا لها في قمة الدول. بينما أخرجت عقود الدلال الأمريكي للفلبين، قيادة ديمقراطيةِ الحريات الفوضوية. فتحكمت بها الأهواء والفساد، فراوحت الفلبين مكانها، بينما تسابقت الأمم على القمة، فتباعدت القمة حتى غابت عن أنظار الفلبين. وفي الواقع، لقد كانت كوريا الجنوبية بالدعم الأمريكي في بداية أفضل كثيرا من الفلبين، رغم التفوق الفلبيني الكبير في المجال العلمي والاقتصادي والبينوي. فالبناء الجديد أسهل وأحكم من ترقيع القديم. فلم تواجه كوريا مشكلة الأراضي كالفلبين. فقد وزعت أمريكا على الشعب الكوري الأراضي التي كان اليابانيون يسيطرون عليها، فشدت الشعب لأرضه وأرضته على حكومته. بينما شرق الفلبنيون بسيطرة النخبة من ملاك الأراضي، مما سبب الامتعاض الشعبي الذي اقترن بالحريات المنفلتة، فأشعل الفتن والمزايدات والتصفيات السياسية. وساعدت صرامة الحكم الكوري على منع ظهور البيروقراطية، كما منعت من ظهور المزايدات الإعلامية، بينما تعمقت البيروقراطية في الفلبين باسم حريات الآراء الجاهلة، كما فتحت مجال المزايدات الاعلامية، فالفلبين اليوم أخطر بلد للصحفيين، لا العراق ولا سوريا، كما أن الخطر الكوري الشمالي المتواصل لم يفتح مجالا للقيادة الكورية الجنوبية للتساهل بالفساد، أو المماراة في المناصب القيادية، أو الرضى بالخطط التنموية الهزيلة. مما وجه الدفة الكورية للصناعة والتكنولوجيا. وعلى نقيضه، خلق الأمن للفلبين من أي تهديد خارجي مجالا للأنانية السياسية والأثرة الذاتية على حساب الشعب، فانتشر الفساد والمحسوبيات. فكان من نتيجة ذلك كله: أن الدعم الأمريكي للحكومة الكورية انتهى لبناء الاقتصاد الكوري والمعرفة العلمية الكورية، وسير البلاد للديمقراطية بالروية والعلم والتجربة. بينما انتهى الدعم الأمريكي للحكومة الفلبينية في جيوب النخبة الفلبينية إن كان ماديا، أو إلى هباء الضياع إن كان علميا أو استشاريا. واستمرت فوضى الديمقراطية في الفلبين، بينما جُيرت باستغلال الإعلام المنفلت، الملامة كلها على الأمريكان، فانتشرت كراهية الامريكان بين الشعب الفلبيني. وأما بالنسبة للامريكان، في كلا الحالتين الكورية والفلبينية، فقد تحقق الهدف الاستراتيجي الأمريكي بدفع الخطر الشيوعي. وعودة لشاهد بنقلاديش، فالمستشار الأجنبي عندنا أكثر من نصف قرن من الزمان، وعظم تحصيل أبنائنا للشهادات العلمية حتى رخُصت الدكتوراة. فمهما صلح المستشار الأجنبي، وبلغ صدق تحصيل علوم الشهادات، فإن نفعها لا يتعدى محلها، فهي تقف على المشروع أو الشخص. هذا إن لم تضيع العلوم والخبرات سريعا بالاتكالية على المستشار الأجنبي. والنفع الذي لا يتعدى، لا ينتشر نفعه، ولا يُمكنه أن يخلق تطورا، ولا يُنهي حاجة ولا يعف عائلاً ولا يخلق إلا خبرات مزيفة ولا يصنع إلا خبراء متكلسين أو أدعياء متهورين. والحل- والله أعلم- بمعطياتنا الحالية، وبجامع أصول شواهد صلب التجارب لأمم أخرى كثيرة، يَكمُن في أصول صلب تجربة المدرسة البنقالية. وأصول صلب التجارب يُصنع منها آلاف التطبيقات المختلفة المتغايرة. وما العجب، فالخلق المحسوس كله، على اختلافاته، يعود لأصل صلب طريقة واحدة، ووحدة الخلق من وحدة الخالق.