عقد في العاصمة الصينية بكين، في الثالث والرابع من ايار مايو الجاري، ملتقى الحوار الإستراتيجي والاقتصادي بين الولاياتالمتحدة والصين. ومن بين قضايا عديدة، هيمنت القضية الكورية، والأزمة الناشبة بين الصين والفلبين، على أجواء الحوار. يُمكن القول إن الصين قد اتجهت نهائياً لبناء منظومة مصالح اقتصادية ومالية متعاظمة مع الولاياتالمتحدة، على النحو الذي أصبح ترابط البلدين أمراً لا مفر منه. وبات من الصعب على أي منهما الاستغناء عن الآخر. بيد أن العلاقات الصينية الأمريكية تبقى مفتقرة لكل من البعد الأمني الدفاعي، والأساس الأيديولوجي. وكانت إدارة الرئيس الأميركي، باراك أوباما، قد سعت، منذ فترة مبكرة، لحث الصين على بذل مزيد من الجهود لتخفيف حدة التوتر في شبه الجزيرة الكورية. ورأى الأميركيون أن الصين بمقدورها ممارسة ضغوط مؤثرة على حلفائها في كوريا الشمالية، لتسوية القضايا العالقة. والإسراع بداية في العودة إلى طاولة المباحثات السداسية. وعلى صعيد النزاع الناشب بين بكين ومانيلا، في بحر الصين الجنوبي، بدا هذا النزاع بمثابة عامل ضغط على الولاياتالمتحدة، التي تربطها بالفلبين معاهدة دفاع مشترك. ولكن دعونا نتحدث بداية عن العلاقات الأميركية الصينية ذاتها. يُمكن القول إن الصين قد اتجهت نهائياً لبناء منظومة مصالح اقتصادية ومالية متعاظمة مع الولاياتالمتحدة، على النحو الذي أصبح ترابط البلدين أمراً لا مفر منه. وبات من الصعب على أي منهما الاستغناء عن الآخر. بيد أن العلاقات الصينية الأمريكية تبقى مفتقرة لكل من البعد الأمني الدفاعي، والأساس الأيديولوجي. كما يحكمها طابع تنافسي، يزداد اتساعاً كلما تمدد الحضور الصيني في الساحة الدولية. يقول قائد عسكري أميركي سابق، في مقال كتبه في صحيفة "نيويورك تايمز": نحن والصين من الأمم البحرية، ذات السواحل الطويلة، التي تعتمد اقتصاداتها على تدفق التجارة دون عوائق. ونحن نواجه سوية تهديدات القرصنة، والاتجار غير المشروع بالمخدرات، وانتقالات أسلحة الدمار الشامل. كما نتطلع سوية إلى خلق الاستقرار في باكستان وشبه الجزيرة الكورية. ونحن نعترف على حد سواء بالحاجة إلى تعاون دولي منسق، على مستوى الإغاثة، والمساعدات الإنسانية، في حالات الكوارث. في المقابل، يؤكد العسكري الأميركي على عدد من مواطن الخلاف بين الولاياتالمتحدة والصين، بالقول: لا نرى تعاملاً بالمثل مع الصين حيال حقوق التحرك العسكري في بحر الصين الجنوبي، ولا نفهم مبرر النمو السريع للإنفاق العسكري الصيني، ولا الأهداف بعيدة المدى للتحديث العسكري لدى الصينيين. وقد رأى بعض المحللين الأميركيين أن تطلعات الصين البحرية، هي محاولة لكبح القوة العسكرية الأميركية في غرب المحيط الهادئ. وإن الهدف من تعزيز ترسانة الصواريخ المضادة للسفن، وبناء حاملة طائرات، والكثير من الأسلحة البحرية المتطورة، ليس سوى محاولة لبناء قوة موازنة للأسطول السابع الأميركي، الذي هيمن على مياه المحيط الهادئ لنصف قرن أو أكثر. وفي 24 آب أغسطس من العام 2011، قالت وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون)، في التقييم السنوي الذي تجريه للجيش الصيني: إن الصين في الطريق فيما يبدو لبناء جيش حديث، يُركز على المنطقة بحلول العام 2020. وقال التقرير إن حاملات الطائرات التي تنتج محلياً في الصين لن تعمل قبل العام 2015 على الأقل، إذا بدأ تصنيعها عام 2011. ودشنت الصين أول حاملة طائرات لها، في آب أغسطس 2011. وهي سفينة سوفيتية أعيد تجهيزها. وتحتفظ بكين بحضور مستمر لعدد من قطعها الحربية في مضيق تايوان وبحر الصين الجنوبي، كما سعت لمد نفوذها إلى المحيط الهندي عبر ميانمار. وعلى الجانب الصيني من مضيق تايوان، عززت بكين من قدراتها العسكرية. ونصبت حوالي 450 صاروخاً باليستياً من طراز( CSS – 6). وتشير بعض التقارير إلى أن الصين توجه نحو تايوان 1900 صاروخ، من الصواريخ القصير والمتوسط المدى. على صعيد التحرك الأميركي، وفيما بدا اتجاهاً مستجداً لبوصلة أولوياتها، تبنت الولاياتالمتحدة سياسة تقضي بتعزيز دورها في آسيا، ومنحها أولوية خاصة. ويشير مبدأ "إعادة التوازن الاستراتيجي" ( strategic rebalancing ) الذي طرحته وزيرة الخارجية الأميركية، هيلاري كلينتون، ومستشار الأمن القومي، توماس دونيلون، إلى أن الحرب في العراق قد امتصت وقت وموارد الولاياتالمتحدة على حساب أجزاء أخرى من العالم، مما سمح للصين بتوسيع نفوذها في أنحاء كثيرة من منطقة المحيط الهادئ. وللولايات المتحدة، حتى الآن، ثلاث سياسات خارجية منفصلة في آسيا، واحدة لمنطقة شرق آسيا، وأخرى لجنوب آسيا، وثالثة لمنطقة آسيا الوسطى (التي نادراً ما تعتبرها الولايات جزءاً من آسيا). في إطار توجهها الجديد، رفعت الولاياتالمتحدة من منسوب علاقاتها مع أستراليا، خاصة على الصعيد الأمني، حيث تقرر إقامة قاعدة عسكرية لقوات المارينز في شمال البلاد. وسعت الولاياتالمتحدة، في الاتجاه ذاته، لتوثيق روابطها مع دول جنوب شرق آسيا. وهدفت زيارة وزير الدفاع الأميركي، ليون بانيتا، إلى منطقة آسيا والمحيط الهادئ، في أواخر العام 2011، إلى وضع الخطوط العريضة لإعادة ترتيب القوات الأميركية في المنطقة. وفي إطار التحديات الماثلة، استمر النزاع الإقليمي في بحر الصين الجنوبي كأحد المحاور الأساسية للاهتمام الأميركي. ويعيد الجدل الراهن حول السيادة الصينية على هذا البحر إلى الأذهان التوتر الأميركي الصيني، الذي حدث عام 1996، حيال الوضع في مضيق تايوان. وتطالب كل من الصين والفلبين وماليزيا وبروناي وفيتنام وتايوان بأجزاء في منطقة بحرية شاسعة متنازع عليها. ورفضت الصين أي بحث دولي للنزاع، ودعت إلى تسويته في أطر ثنائية. أو داخل رابطة آسيان. ويعد بحر الصين الجنوبي طريق ملاحة استراتيجية، بين شرق آسيا والشرق الأوسط وأوروبا. ويُقدر المعهد الجيولوجي الأميركي الحد الأقصى لاحتياطيات النفط المؤكدة فيه ب 213 مليار برميل من النفط. ومن شأن مثل هذه الاحتياطات، في حال اكتشافها، أن تغطي ما يزيد على 60 عاماً من الطلب الصيني، بمعدلاته الحالية. كذلك، تكثر الأسماك في مياه هذا البحر، وغالباً ما يقوم حرس الحدود الصينيون بتفتيش صيادين من فيتنام والفلبين، فيما يواجه صيادون صينيون المعاملة نفسها من السلطات الفيتنامية والفلبينية. وتتنازع كل من الفلبين والصين السيادة على مجموعة صغيرة من التكوينات الصخرية في بحر الصين الجنوبي، تقع على بعد حوالي 124 ميلاً بحرياً، قبالة جزيرة لوزون الفلبينية، بالقرب من قاعدة سابقة للبحرية الأميركية في خليج سوبيك. ورصدت طائرة تابعة للبحرية الفلبينية، في الثامن من نيسان أبريل الماضي، ثمانية زوارق صيد صينية عند التكوينات الصخرية، وأرسلت أكبر سفينة حربية فلبينية لتفقد الوجود الصيني. ووصلت سفينتا مراقبة صينيتان بعد ذلك بقليل، بعد أن فتش طاقم السفينة الحربية الفلبينية زوارق الصيد الصينية. ووقفت السفينتان الصينيتان بين السفينة الحربية الفلبينية وزوارق الصيد، حتى لا يتم إلقاء القبض على أي من الصيادين. وكانت البحرية الصينية قد هددت بمهاجمة سفينة أبحاث فلبينية في آذار مارس من العام 2011، مما دفع مانيلا إلى إرسال طائرات وسفن إلى المنطقة. وبعد ذلك بدأت الفلبين في بناء علاقات أوثق مع الولاياتالمتحدة. وضغطت الفلبين، في مطلع نيسان أبريل الماضي، من أجل بحث نزاع بحر الصين الجنوبي في قمة رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان)، على الرغم من حذف هذا الموضوع من جدول أعمال القمة. وأثار قرار كمبوديا، التي استضافت القمة، حذف هذا البند شكوكاً بأن تكون قد تعرضت لضغوط من الصين، حليفتها الاقتصادية الوثيقة. وفي السياق ذاته، عرضت مانيلا استضافة قمة للدول المطالبة بأجزاء في بحر الصين الجنوبي، لبحث النزاع "وفقاً للقانون الدولي"، في إشارة إلى قانون البحار لعام 1982. وقالت مانيلا إنها أصيبت بإحباط نتيجة لجهود الصين لإبطاء المحادثات المتعلقة بإضفاء الصفة الرسمية على إعلان عام 2002، الذي يتعلق بالسلوك والتعاون بين آسيان والصين. ومع اندلاع المواجهة الأخيرة بين السفن الفلبينية والصينية، سارعت الولاياتالمتحدة والفلبين لإعلان التزامهما باتفاقية الدفاع المشترك، الموقعة بين البلدين في العام 1951. وقالت الوزيرة كلينتون: "نحن نعارض استخدام القوة، أو التهديد بها، من جانب أي طرف... سنبقى على اتصال وثيق مع حلفائنا الفلبينيين". وتلزم المعاهدة الدولتين بالدفاع كل عن الآخر، في حالة تعرضه لهجوم من طرف ثالث. وأجرت قوات أميركية وفلبينية، في النصف الثاني من نيسان أبريل 2012، تدريبات عسكرية بحرية، جرت فيها محاكاة هجمات في منطقة بحر الصين الجنوبي. وكانت نقاشات أوسع حول التعاون العسكري بين البلدين قد بدأت منذ العام 2011، عندما أعلنت إدارة الرئيس أوباما عن استراتيجيتها الجديدة حيال آسيا والمحيط الهادئ. وفي آذار مارس الماضي، عرضت الفلبين على الولاياتالمتحدة منحها تسهيلات أكبر في استخدام مطاراتها. وربما فتح مناطق جديدة أمام جنودها. وقالت مانيلا انها ستطلب من واشنطن، مقابل فتح قواعدها، المزيد من العتاد العسكري والتدريب، بما في ذلك سفينة حربية أخرى من طراز هاملتون. وربما سرب من طائرات (F-16) المستخدمة. ووافقت الولاياتالمتحدة في العام الجاري على تقديم 30 مليون دولار من التمويل العسكري الخارجي للفلبين. ووصل التمويل في العام 2003 إلى 50 مليون دولار، بعدما أرسلت واشنطن قوات لمساعدة مانيلاً في جنوب البلاد. وتلقت الفلبين أكثر من نصف مليار دولار من المساعدات العسكرية الأميركية، خلال السنوات العشر الماضية. وإضافة إلى ملف بحر الصين الجنوبي، والنزاع الصيني الفلبيني، بدت الأوضاع في شبه الجزيرة الكورية وقد رمت بظلالها على الحوار بين واشنطنوبكين. وتطالب الولاياتالمتحدة الصين بالضغط على كوريا الشمالية، لوقف مشاريعها الراهنة لتجربة مزيد من الصواريخ الباليستية، وعزمها على إجراء تفجير نووي ثالث. وفي المجمل، يُمكن القول إن طيفاً واسعاً من قضايا الأمن والتجارة الدولية، يفرض نفسه على مقاربة العلاقات الأميركية الصينية، لكن هذه العلاقات تبقى حاجة مشتركة، لا غنى لأي من الطرفين عنها.