1 - قال سبحانه في معرض العتب للحبيب: {عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ}، فهل رأيتم لطفًا وذوقًا وأدبًا مثل هذا؟! وهل سمعتم بمعاتبة أحسن من تلك؟! فمن تأمَّل حالَ البشر يجد أنَّ أغلبهم يباغت المخطئَ بالتهديد ويتلقاه بالتهويل، ثم يرسل النقدَ كسَهْمٍ قاتلٍ مسموم، أمَّا المولى- سبحانه- فقد بدأ بالعفو قبل المعاتبة! 2 - يقول عز وجل: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا}. فانظر لقوله سبحانه وتعالى {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ}، ثم انظر إلى قوله تعالى: {وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} حتى لا يتسرب إلى الذهن أنَّ داوود- عليه السلام- قليل الفهم. ثم ذكر سبحانه وتعالى بعض الفضل الذي منَّ به على داوود - عليه السلام- بقوله: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ} فما أروع أنْ نقتدي بالنهج القرآنيِّ إذا ما أخطأ أحدهم فنقول له: (يا هذا، عهدناك ذا فهم وعقل، ولعلك ابتعدتَ عن الصواب في تلك المسألة!) 3- لا تزال المشاهد تترى مجلية لنا أنَّ ديننا دين الأخلاق الأول، ومنها قوله تعالى: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ}. فالآيةُ تحث على إعطاء المساكين واليتامى والذين حُجب عنهم الإرثُ بسبب وجود طبقاتٍ أقرب منهم إلى المورث؛ جبرًا لخواطرهم وإرضاء لرغباتهم، وكسرًا لنوازع الغل والحسد. 4 - انظُر إلى أمر الله سبحانه وتعالى لنبيه بشأن الضعفاء الفقراء: {وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ}؛ ففي العُرف مَن المطالَب بالسلام؟ القادم أم المستقبِل؟ جزمًا القادم هو من يلقي السلام! ولكن التوجيهَ هنا خالفَ القاعدة؛ احتفاءً بالفقراء، وإظهارًا للمزيد من الاهتمام بهم! 5 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ} [النور: 58]. آية تضع قاعدة من قواعد الذوق، الأطفال تحت سن البلوغ لابد أنْ يستأذنوا ثلاث مرات: قبل صلاة الفجر، وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة, ومن بعد صلاة العشاء. هل هذا دينٌ جاء لينظم الحياة في المسجد أم في المنزل؟ لا، بل إنه جاء لينظم الحياة حتى داخل غرفة النوم! 6 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور:27]. وفي وقتنا الحالي معنى {تَسْتَأْنِسُوا}: أنْ تقوم بإجراء مكالمة هاتفية تستأذن في الحضور، وانظر إلى التعبير القرآني {تَسْتَأْنِسُوا}: أيْ إنك تضمن أنَّ صاحب البيت سيستأنس بك، ويمكن أنْ تستشف ذلك من نبرة صوته في الهاتف. ثم انظر إلى الذوق في هذا القول: {وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} أيْ إنَّ السلامَ يأتي بعد الاستئذان، وبعد الذهاب للمنزل. 7 - من الذوق ما أوصى به– سبحانه- موسى وهارونَ بأنْ يقولا لفرعون {قوْلًا ليِّنًا} وهو القائل: {أنَا رَبُّكُمُ الأعْلَى}?!. فهل سمعتم بأطيب من هذا الكلام، وأعذب من هذا الخطاب؟! 8 - وقال تعالى: {قُل لَّا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ} يقول عبدالمحسن المطلق: «لاحِظ أدبَ القرآن, وصَفَ عملَنا بالإجرام وصنيعهم بالعمل, وهذا قمةُ الأدب تعدَّى درجةَ الإنصاف والعدل». 9 - الناظر للقرآن يلحظ العناية الفائقة ومراعاة الأدب والذوق في الحديث عن المواضيع الحساسة كوصف علاقة الرجل مع زوجته، وذلك باستخدام أكثر الألفاظ تهذيبًا؛ حيث إنَّ هناك من الألفاظ ما لا يُستحسَن الجهرُ به، فقد تم التعبيرُ عن العلاقة بالإفضاء {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أفضَى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ}. وعبَّر عنه بالتغشي {فَلَمَّا تَغَشَّاها}. وعبَّر عنه باللمس والمسِّ {أوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ}، {مِنْ قَبْلِ أنْ تَمَسُّوهُنَّ}. وعبَّر عنه بالرفث {أُحِلَّ لكُمْ ليْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إلى نِسَائِكُم}. وعبَّر عنه بالمباشرة {فالآنَ باشِرُوهُنَّ}, وكنَّى عن قضاء الحاجة بقوله: {كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ} فهل سمعتم بمثل هذا الأدب والذوق؟!