التشاؤم ليس قبحباً قد تسخر من الغربان ولكن هذا لا يعني عدم سخرية الغربان منّا، فسيان في هذا الوجود الأحمق كما قال العقاد، كلنا نوجد في هذه الصيرورة الغاشمة التي تبتلعنا فرادى وجماعات، كلنا نتمزق في هذه المشرحة العملاقة، وكلنا ننهرس هرساً في طاحونة الحياة، وكلنا ننهزم أمام السخافات والتفاهات والحقارات، فعن أيّ تفاؤل تتحدث أيها المسكين! إنه ما من حقيقة قصوى تحيط بالوجود كحقيقة فنائه وانتهائه ووفاته، وهي حقيقة حاسمة لن نماري حين نؤكدها ونشدد عليها، وأفضل سبيل، من سبل البحث عن الحقيقة، يبدأ من هنا: النظر لكل شيء بعين «المأزق» فنحن لسنا نوجد لنسعد، ولا لنتعلم، ولا لنفكر، ولكن، ولكن فقط: لكي نتشاءم! ولكي ننفذ إلى بؤرة وجودنا من خلال أكثر الأشياء أصالة في تكويننا! وأعني به، ذلك الشيء الحارق والواخز، إنه ألمنا اللامتناهي والذي لا يعرف الحدود. وإنني لأتألم بالقدر الذي أسعد فيه، فكل لذة هي بالضرورة مسبوقة بكدح، ولو أقمنا حساباً رياضياً لحصر اللذة كما فعل الأبيقوريّون لقلنا إنه مقابل الألم الكثير نحصل على سعادة قليلة. ومقابل شهور وسنين طويلة من التألم والتوجّع لن نحصل إلا على لحظات معدودة من الفرح. قد تتهمونني بالتشاؤم، وبالمقابل سأتهم من يرميني بهذه التهمة بأنه ساذج وأبله ولا يفقه شيئاً في شؤون الفكر والتاريخ. فإن أبسط نظرة من أعيننا تجاه التاريخ بنصوصه المكتوبة أو بعلمه المخبور تطلعنا على حقيقة أن الماضي - الذي يتحكم بنا آنياً - هو نسخة مكرورة من المستقبل القريب، لأن الماضي هو بالضرورة علة للمستقبل، وهذا الأخير علة للأول، ومن عرف الماضي جيداً فإنه يقدر على حدس ما سيقع مستقبلاً. وقد صدق بول فاليري حين قال ناصحاً المعلمين الفرنسيين والقائمين على تربية الأطفال بقوله «فلنعلمهم قليلاً من التاريخ.. لأن التاريخ هو لعنة البشرية، وإن كل صفحة من صفحاته ملطخة بجرائم الإنسانية، فليحفظ الله أطفالنا، حتى لا تقع أعينهم على هذه الأمثلة السيئة من الأغراض والأطماع». وبصرف النظر عن موقفنا من فاليري وعما إذا كنا نؤيده أم نعترض عليه، فإننا في الوقت عينه لا ننفي وجاهة حجّته وسدادة رأيه فيما يخص «تلطخ» التاريخ بآثام المجرمين والباطشين. والحقيقة أنه لا يوجد مجرم بلا جريمة، ولكن الجريمة يُمكن أن توجد من غير مجرم بعينه، لأن الجريمة هي كلمة كلية وغير فردية تنطبق على عدد لا حصر له من الحالات والأمثلة التي يمكن أن نطلق عليها صفة «جريمة»، ولو أردنا أن نقول: ما هي الجريمة الكبرى التي وقعت في التاريخ؟ لأجبنا مباشرة ومن غير تردد: أن نوجد! فإن وجود الإنسان يظهر حينما يختفي إنسان آخر، ووجودي فوق الكرسي الذي أقعد عليه الآن هو نتيجة لإزاحتي لإنسان مختلف في زمن مختلف وظرف مختلف. وكل إنسان هو مجرم بالضرورة حتى وإن ثبت العكس. وعقاباً على جريمته في الوجود أو الظهور فإنه يواجه الموت والإفناء، فكل إنسان هو ميت بالضرورة مهما بلغت مكانته ومهما قيل بحقه، فالموت هو أكثر الديمقراطيين في ديمقراطيته إذ يتساوى أمامه الجميع، ويقف أمامه المجرم والشريف معاً. ولكن هل الموت نفسه، عقوبة؟ أم أن الحي - يملك بذرة موته - منذ ساعة بزوغه أو ظهوره؟ إن الموت هو «نهاية» للحياة ولكنه في الوقت عينه إظهار لحيوات أخرى لا متناهية العدد، وكل كائن يموت يظهر عوضاً عنه كائن آخر وربما كائنان أو ثلاثة (لا تسألوني عن معدلات الانفجار السكاني عالمياً!) وبالتالي فإن الموت الذي يتجلى في فرد مشخص يعاود إظهار الحياة في عشرات الأشخاص. وإن هذا كله لا يعني سوى شيء واحد: أن الحياة تنتصر على الموت ولكنها تفعل ذلك لتمدنا بالمزيد من الوجع مقابل القليل - بل القليل جداً - من الراحة. نجوى الأحمد - جامعة الأميرة نورة