شيخنا المربي يودع الدنيا بعمر حافل في التعليم والدعوة والعبادة، لم أر في حياتي مثله تعبداً وجلداً على طاعة الله والتأله له حتى بعد كبر سنه وضعفه، كان من آيات الله وممن نحسبهم ممن اصطفاها الله في التقى والزهد والورع ودوام الذكر فكان لا يفتر لسانه من ذكر الله، كانت تنطبق عليه ( العلم هو الخشية)، يختم القرآن كل ثلاث وفي رمضان أقل من ذلك وكان بعد صلاة التراويح تستوقفه بعض الآيات فيطلب من الإمام وكان أخي إبراهيم ليقرأ عليهم تفسيرها. كانت له مع والدي رحمه علاقة حميمية أخوية ممتدة بطول عمرهما حتى كان يصلي عن والدي صلاة التراويح في العطايف ويعقبه إذا غاب في الشرفية ويجلسان سوياً بعد صلاة الصبح حتى الإشراق بشكل يومي وكان معهما الشيخ سعد شقيق الشيخ، وإذا داخل الشيخ النعاس قام وأكمل ورده من تلاوة القرآن ماشياً داخل المسجد ذهاباً وإياباً، وبعد الإشراق كانوا يصلون ثماني ركعات ثم يقوم والدي بقيادة الشيخ إلى منزله ثم يكمل ليقود الشيخ سعد إلى منزله. في أحد أيام عشر ذي الحجة اضطر الشيخ للذهاب إلى منزله قبل أن تشرق الشمس فذهب لبيته وظننته لن يعود لكونه كان متعباً ثم تفجأت بعودته مرة أخرى مجدداً وضوءه ليكمل الدقائق المتبقية على الإشراق لئلا يفرط بيوم من أيام العشر. قرأ والدي رحمه الله في صلاة الفجر يوما سورة الواقعة فتأثر الشيخ بالسورة تأثراً بالغاً حتى وعظ الناس بعد الصلاة وفسر هذه السورة تفسيرا تأثر به الحضور وهي أول مرة أسمع فيها موعظة بعد صلاة الفجر. تشرفت بملازمته منذ عام 1408ه في مسجد الملك خالد بحي الشرفية حتى مرضه وضعفه، كانت لي معه دروس انفرادية ختمت عليه فيها بعض الكتب ولم يأنف يوماً أن يكون طالب واحد يقرأ عليه، بل بعد وفاة والدي رحمه الله وإمامتي لمسجده استأذنته في درس بعد صلاة الفجر في صحيح البخاري مع شرح فتح الباري في بعض المواضع فوافق رحمه الله وكان يجد انشراحاً ونشاطاً للقراءة في كتب السنة. في اللقاءات الاجتماعية بين الجيران أو الأقارب كان لا يحب أن ينقضي المجلس دون ذكر أو موعظة. كانت دروسه لا تتوقف بشكل شبه يومي بعد صلاتي المغرب والعشاء وفي يومي الخميس والجمعة بعد صلاة العصر، إضافة إلى درس بين الأذان والإقامة في صلاة العشاء، درس عليه في المسجد جمع من طلبة العلم ممن أذكرهم المشايخ د.عبدالعزيز المبدل ونامي النامي د. حسين العبيدي، د. ناصر المنيع، وصالح اليابس و د.عبدالرحمن المخضوب وناصر الخميس وعبدالرحمن العصيمي وفهد البسام (كان يأتي من الدلم كل أسبوع)، وعثمان العسكر وشاكر الشهري وبندر الجبارة وعبدالرحمن القحطاني وعبدالله أبو حيمد وعبدالعزيز الجاسر ود. علي القصير، وغيرهم كثير ممن لا تحضرني أسماؤهم أودرسوا عليه في الكلية أو أشرف على رسائلهم العلمية. أمثال الشيخ في مثل زماننا هذا كالذهب الإبريزي الذين قل وجودهم، من الذين لا يخطون خطوة إلا ويلتمسوا فيها رضى الله وطلب ثوابه، أمثاله تعيدنا إلى تاريخ سلفنا الصالح حينما نقرأ عن تراجمهم ونتعجب من جلدهم ومكابدتهم على طاعة ربهم، أمثال هؤلاء نجوم يحتذى بها وكواكب نستضئ بها إذا ادلهمت بِنَا الشبهات أو تكثاثرت الشهوات. أمثال هؤلاء يعملوا لغاية واحدة لم تتعدد بهم المآرب أو تعصف بهم الملمات والنوائب، ثبات على الحق لا يعملوا أو يتعلموا تكثراً أوتثقفا حققوا الغاية من العلم المتمثل في الخشية دون نظر إلى حظوظ النفس ومزالق الهوى، على مثل هؤلاء فلتبكي البواكي فذهابهم انتقاص من الأرض كما قال الله عنهم: (أولم يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) (الرعد 41). وَقَالَ ابن عباس في رواية: خرابها بموت علمائها وفقهائها وَأَهْلِ الْخَيْرِ مِنْهَا، وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ أَيْضًا: هُوَ مَوْتُ الْعُلَمَاءِ. رحم الله شيخنا رحمة واسعة وأسكنه الفردوس الأعلى من الجنة، وألهم أهله وأولاده وأرحامه وطلابه الصبر والسلوان.