* * منذ اليوم الثاني بعد زواجهما، قالت له إنها تفضّل أن تكنيه ب «أبي سراج»، وكانت كمن يريد أن يصطاد عصفورين بحجر واحد، تخليد اسم أخيها، وإراحة مزاجها في آن، فكان لها ما أرادت، وأضحت هي أيضاً أم سراج، إذ انسجام الأفكار ثمرة ناضجة للعلاقة الزوجية إذا كان الحب الصادق مزرعتها، وقد مضت السنوات الأولى طبيعية ليس فيها ما يعكر صفو الحياة، لكنها في إحدى الأمسيات دنت منه في حديقة الدار حاملة فنجان القهوة التركية التي تعوَّد على شربها في مثل هذا الوقت وألقت تحية المساء، وجلست بجواره، وقد سألته إن كان يريد وجبة العشاء من مادة محددة، فقال إنه مدعو إلى عشاء من قِبل أحد الأصدقاء، فتذكرت أن ملابسه لا تصلح للذهاب، ونهضت مسرعة علّها تستطيع أن تعد ما يحتاج إليه منها على عجل، وقد سألها: - ما بك كأنك ملدوغة؟ إلى أين؟ قالت: - سأغسل ملابسك كي ترتديها ما دمت مدعواً.. قال: - أنت تعلمت الكسل.. لماذا لم تعديها في الوقت المناسب؟.. قالت: - ألا تراني أجري كالآلة من صباح رب العالمين إلى نصف الليل؟.. قال: - هذه نغمة جديدة الله يعطينا خيرها.. تركته ومضت إلى وجهتها، وبقي هو يفكر في طلبها إيجاد خادمة قبل أيام كي تساعدها في أعباء الدار الكبيرة، وقال لذاته لعلَّ لها بعض الحق، فلماذا لا أُحضر من تساعدها؟ لكن فكرة طرأت له مستحضراً بعض جرائم الخادمات المخيفة، ثم ما لبث أن طرد الوسوسة قائلاً إن المحيي المميت هو الله وحده، وما حان موعد أذان المغرب في القرية حتى خلصت أم سراج من إعداد «بدلة» في غاية القشابة، وبعد أن صلّت المغرب أعدت كأس عصير طبيعي وحملته إلى بعلها لتخبره أن الملابس جاهزة، وهناك أفادها أبو سراج أنه قرر استقدام خادمة من قارة آسيا إذا لم يكن لديها مانع.. شكرته وهي تشترط شرطاً ربما كانت في غنى عنه وتركت الأمر لله.. في هذا الوقت شعرت بعوارض لم تكن قد مرت بها من قبل، فاستحضرت والدتها على عجل وقد تبين لها أن ابنتها ستنجب مولوداً، وأوصتها أن لا تكثر الحركة وأن لا تحمل شيئاً ثقيلاً ولا بأس من مراجعة الطبيب برفقة زوجها الذي سوف يسعده أن يدري أنها في حال حمل، وما أن نقلت له أحاسيسها وكلام والدتها حتى تهللت أساريره، مصطحباً إياها لطبيبة نساء وولادة، وهناك جاءه الخبر اليقين فذهبا سوياً إلى سوق الصوغ في المدينة القريبة من القرية، وشرى لها لبة من الذهب الخالص، وقال لها في الطريق إن التفكير في الخادمة جاء في الوقت المناسب، وطلب منها أن تذهب إلى والديها لعلها أن تجد من يخدمها كي لا يتضرر الحمل، فأبت وقالت إنها سمعت عن نساء من أهل القرية قديماً أنجبن أطفالهن وهن على رأس العمل في الزراعة أو الرعي أو الاحتطاب، وأضافت أن أحداهن بعد ما كوّمت حطبها في أحراش البلدة طلبت من رفاقها أن يضعوه على ظهر بعيرها ريثما تقضي حاجتها، وما هي إلا أقل من نصف ساعة حتى عادت إليهم من بطن الوادي تحمل وليدها الذي اختارت له اسماً من وحي الظرف الذي ولد فيه، وكأن شيئاً لم يكن!! أعجب أبو سراج بمعنوية زوجه، وتمنى أن لا تتعرض لمكروه، وبعد أيام حلّت الخادمة بدارهم وقد لاحظت الزوج أن عمرها قد لا يزيد عن خمس وعشرين سنة حسب تقديرها، ولما رأت جواز سفرها تبين أنها قد تجاوزت الأربعين ببضعة شهور، وقالت الخيرة في ما يختاره الله، ومنذ الوهلة الأولى باشرت عملها، وقد قلبت المنزل رأساً على عقب نظافة وترتيباً واستحسن الزوجان ما تقوم به لكن كلاً منهما ينظر للأمر من زاوية مختلفة، فالغناء على ليلى حاضر بتميز!! مضت الأيام وأنجبت الزوج غلاماً جميلاً كان اسمه مختمراً لدى والديه، غير أن أم سراج لاحظت برودة في عاطفة بعلها من غير أن تظن أي ظن خبيث، وقالت لعل الأمر لا يعني غير تهيؤات عابرة في الوقت الذي كان الزوج يطيل نظراته للخادمة التي فتنته بجمالها وقوامها، وقد لاحظت عليه ذلك فازدادت غنجاً ودلالاً في أوقات انشغال الأم بوليدها، إلى أن اضطرت لاستقبال بعض سيدات القرية عندما زرنها، وقد تركت الخادمة تعد القهوة والشاي والعصير وتحملها إليهن في الدور الأرضي حيث زاد التقارب بين السيد وخادمته لحظة أن طبع على وجنتها قبلة خاطفة ولاحظ أن بإمكانه أن يفعل المزيد فتبعها إلى المطبخ وغاصا في عناق طويل واطمأن كل منهما إلى مشاعر صاحبه، ولم يعلما أن ما حدث كان بداية النهاية إذ سرعان ما جرت الرياح بما لا يشتهي السفِن، وقد كان الاثنان في منتهى الحرص على كتمان ما بينهما، ولم يكونا يستمتعان ببعضهما إلا إذا كانت سيدة الدار خارجها، وعندما أصبح عمر الوليد سنتين قالت أمه فجأة: - يا أبا سراج.. أنا منذ مدة لاحظت أنك قد تبدلت خصوصاً بعد ما دخلت الخادمة دارنا، فإذا لم يعد في قلبك مكان لي ف «من رأس البئر ولا من قاعتها» دعني أذهب لبيت أبي، والله يهنئ سعيداً بسعيدة.. ولما سُقط في يده استشاط غضباً وصفعها بغلظة على وجهها صفعة كانت القاضية محدثة ورماً وأثراً كبيرين في وجهها فخرت صريعة.. وكانت الطامة الكبرى!! في بداية الأمر ظن أن المسألة لا تتعدى حدوث غيبوبة سوف تفيق منها بعد برهة، لكن الوقت يمضي وهي على حالها، فحملها إلى سيارته وسار بها مسرعاً إلى أقرب مستشفى عمومي، وبعد معاينتها من قبل الطبيب المناوب أفاد بأنها ميتة منذ أكثر من ساعة، ثم سأل عن سبب تورم وجنتها، فأتت إجابة الزوج متلعثمة ما دفع الطبيب لأن يطلب منه البقاء في المستشفى حتى مجيء الشرطة لأن الشبهة الجنائية متوفرة في ما حدث، وتم إبلاغ والد القتيلة الذي حضر على عجل، وكاد أن يفتك هو وابناه بالزوج القاتل لولا أن الحضور سيطروا على الموقف، ولما حضر أفراد الأمن أفادهم أبو سراج أنه لكمَ زوجه من غير أن يكون قاصداً قتلها ولا يدري ماذا حدث بعد ذلك، فأمروا بالتحفظ على الجثة، واصطحبوا البعل إلى المركز ليبقى عندهم في انتظار رأي الطبيب الشرعي، وفي اليوم التالي تبين أن اللكمة تسببت في هبوط حاد للدورة الدموية لدى أم سراج فقضت نحبها على الفور، وقد سُئل والد الضحية عن موقفه فأفاد بإصراره على القصاص بشكل قطعي، ومن ثم جرى تسليم الجاني إلى السجن العام مبتدئاً العد التنازلي لإنفاذ القصاص!!