لن تنجو منطقتنا من القلاقل والمحن، خاصة من الطائفية، وإيران يحكمها الملالي ودولتهم الدينية، التي يتربع على سدة الحكم فيها (رجل دين). فهذا النظام تقوم شرعيته وسبب بقائه على التوسع الجغرافي متخذاً من نصرة المذهب الشيعي، والدفاع عن الشيعة، ذريعة لتدخلاته في المنطقة، ويرى في المنطقة بأسرها منطقة نفوذ، يجب أن تكون مجريات قراراتها بأمره، وأمر طهران. هذه الفلسفة تحولت مع الزمن منذ قيام ثورة الخميني إلى استراتيجية يتكئ عليها بقاؤه، لا يستطيع أن يتراجع عنها، وليس أمامه إلا الإمعان فيها أكثر؛ لأن أي تراجع سيكون انكفاء على الذات، ومواجهة التخلف الاقتصادي والاجتماعي الذي يعيشه الإيرانيون؛ لذلك تدخلات إيران في المنطقة هي بوجه من الوجوه ترحيل لمشاكل إيران الداخلية إلى الخارج، فلو تخلت عنها فمعنى ذلك سيحاسبها الإيرانيون عن واقعهم المرير الذي يتعايشون معه، وسيتساءلون حتماً عن ثرواتهم التي بذّرها الملالي هنا وهناك، والحجة نصرة - كما يزعمون - مذهبهم، ومساندة ونصرة إخوانهم في المذهب، ونسوا الإنسان الإيراني، الذي يشكو الفقر، ويخنقه الحصار، ويأكل مداخيله التضخم ومعدلاته المتزايدة مع مرور الزمن. فانحدار سعر صرف العملة الإيرانية يتزايد مع مرور الوقت، وبخاصة كلما وصلت المحادثات مع دول (الخمسة + واحد) إلى طريق مسدود، أو ما يوحي بأنه تعثر؛ ما يعني أن الحصار الاقتصادي سيطول أمده. إيران لا يمكن أن تبقى ونظام الملالي لا يمكن أن يستمر بإيقاظ المذهبية والنفخ في نارها إلى الأبد، خاصة أنه لم يبق بقعة من بقاع المنطقة الملتهبة إلا وحشروا أنوفهم في قضاياها، فهم يقاتلون مع النظام العراقي ضد داعش، ومعركة (تكريت) - كما يقولون - يقودها «قاسم سليماني» الجنرال الإيراني المتنقل في بؤر الصراع. وهم يقاتلون، ومعهم حليفهم (حزب الله) اللبناني، بجانب نظام الأسد في سوريا. وفي اليمن اتخذوا من ميناء الحديدة اليمني موطئ قدم لدعم عملائهم الحوثيين بالعتاد والمال والنفط المجاني المكرر تمهيداً لحرب أهلية، يبدو أنها وشيكة هناك. وهم بسبب طموحاتهم النووية العسكرية وامتلاك السلاح النووي يخضعون لحصار اقتصادي من قِبل العالم. وهذا الحصار ينعكس تأثيره بقوة على الداخل الإيراني؛ فيزيد من تفاقم أوضاع الإنسان هناك.. فهل تستطيع إيران أن تواجه كل هذه المعضلات والبؤر الملتهبة التي تستنزف مواردها ومقدراتها إلى الأبد؟ يقولون الحروب تستطيع أن تبدأها، لكنك لا تستطيع أن تنهيها، أو حتى تنسحب من التأثير فيها متى ما أردت. وإيران تواجه بهذه السياسة غير المبررة وغير الموضوعية، التي لا تواكب ظروفها الاقتصادية، وبخاصة ظروف الحصار المستمر وانخفاض أسعار النفط، ولاسيما أن أنداد إيران ومناوئي سياسات توسعها هم أقوى من إيران وأغنى، وأقدر على إيذائها، خاصة أن ثمة ورقة غاية في الأهمية تُشكل (ثقباً) في الخاصرة الإيرانية، هي التكتلات السُّنية في الداخل الإيراني، وكذلك التكتلات الإثنية، ووجودها الجغرافي على الحدود مع دول الجوار، وفي مناطق وعرة، من شأنه فيما لو تم تفعيلها ودعمها وتمويلها من قِبل مناوئي إيران أن تخلق لها مشاكل جمة، بل قد تجعل نظام الملالي نفسه يواجه تحديات بقاء حقيقية، فلا ينهك الدول مثل حروب العصابات كما يقول التاريخ. الإيرانيون يبدو أنهم يدركون نقطة ضعفهم تلك، ولا بد أنهم يعون مدى خطورتها، غير أن التراجع عما بدأه «الخميني»، واستمر عليه خلفه «خامنئي»، والتخلي عن طموحاتهم التوسعية، يعني - كما ذكرت آنفاً - أنهم سيواجهون الإنسان الإيراني في الداخل، وهذه المواجهة من حيث المخاطرة لا تقل عن احتمالية ثورة التكتلات السنية وكذلك الإثنية في داخل إيران؛ لذلك فهم لا يستطيعون أن يتراجعوا؛ لأن الخيارات بعد تماديهم في دس أنوفهم في كل قضايا المنطقة أصبحت محدودة ومعقدة. وعلى ما يظهر لي، ولأسباب موضوعية، فإن نظام الملالي في النهاية سيواجه تراكمات سياسية، وكذلك عسكرية، وأخرى اقتصادية، في الداخل والخارج، لن يكون في مقدوره الاستمرار في مواجهتها. إلى اللقاء.