يرحل الملك عبد الله بن عبد العزيز وتبقى إنجازاته الكبرى على الصعد كافة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بعضها لا تخطئها العين، والبعض الآخر لا يزال في مراجل الإنجاز ستظهر تباعاً.. المشاريع العملاقة يمكن أن تتحدث عن نفسها، الإنجازات الكبرى ستكون شاهداً على عهده الذهبي، ومرحلته التاريخية، لكن شيئاً آخر سيبقى راسخاً في القلوب، هو العلاقة الإنسانية البسيطة مع شعبه، والحب المتبادل والعفوي مع الصغار والكبار. السعوديون عموماً يتذكرون عبارته الشهير عندما تحدث عنه مرضه وإصابته بعرق النسا، فقال (إن النساء لا يأتي منهن إلا كل خير)، فضجت القاعة ولهجت معها بيوت السعوديين بالدعاء له. أو تلك القصة التي رواها لأبنائه المبتعثين عندما قال (الله يطول بعمر البترول)، ولعل من آخر عباراته الشهيرة والصادقة، هو قوله تلفزيونياً عند افتتاح استاد الجوهرة إن الشباب السعودي (يستحقون أكثر وأكثر). ترسيخ الخطاب الأبوي الملك عبدالله بن عبدالعزيز - تغمده الله بواسع رحمته - كان ملكاً وأباً في الوقت نفسه، فكل أبناء شعبه أبناؤه وبناته الذين يجدون فيه كل معاني الحب والحنو والرأفة والرحمة، ويجدون فيه كذلك كل سمات القائد الملهم والإمام الحكيم الحريص على شعبه حرصه على عينه، كما قال مرارًا: «إن شعبي في عيني»، وهذا الحنو وهذا الكرم ينصرف إلى أبناء شعبه كما ينصرف إلى ضيوفه، كما لمس الجميع ورأوا رؤية العين. في ديسمبر 2011 قال له الأطفال العرب بصوت واحد: نحمله بداخلنا، ونحتفظ بصورته كشاهد حب، ووفاء، مثل الغيوم البيضاء التي تساعدنا على البقاء في حكاية ولاء لهذا الوطن، تلك الصورة التي أخذت مكانها في القلوب.. لم تعد مُلكنا وحدنا.. هي صورة أصبحت ملكاً لجميع أطفال العالم، وتحديداً حين اختاره وقلّده أطفال العرب «وسام الأبوة». إن المتأمل لهذا القائد التاريخي بإنسانيته يجعله يتساءل: أي محرض على الخير بداخله يجعله مختلفاً بذلك القدر؟، وأي عفوية بيضاء تنبع من داخله لتحرك قلبه تجاه أن يُسعد جميع من حوله، حتى وصل قلبه الكبير إلى أفئدة الأطفال؟ هؤلاء الأطفال الذين شاهدوا دموعه حينما واسى طفلاً فقد أبيه الشهيد فتدمع عيناه -تعاطفاً ومحبة-، وحينما تعاطف مع طفل مريض لم يجد العلاج فيأمر بعلاجه، وحينما تعاطف مع أطفال الحروب وأمر بإرسال كل ما يحتاجون لمساعدتهم.. فهل يكذب الأطفال؟ وهل يخونهم حدسهم في تقييم الأشخاص؟ بل إنهم الكائنات الوحيدة القادرة على تحسس الحب من الكبار، وتقديم هذا الوسام من الأطفال يدل على أنهم يشعرون بصدق هذا القائد الذي أحبهم فأحبوه، واستحق لقب «وسام الأبوة». مواقف لا تنسى يمتاز خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز- رحمه الله - بحب جارف، وتعلُّق كبير من السعوديين، حيث كان يقف على منهجية لا تخضع لسياسة معينة، بل تقودها عفوية أبوية نحو أفراد شعبه ومواطنيه، كصانع للتاريخ، ورجل إصلاح بمبادراته المتعدّدة التي طوّرت المجتمع السعودي منذ توليه مقاليد الحكم. تأسست أبوية الملك عبدالله وهو يستهل عهده بطرق أبواب الفقراء في أبسط الأحياء، ويلبي دعوات البسطاء، قبل أن تتلاحق صور عديدة، وهو يشارك أبناء الشهداء دموعهم، وفي ضحكاته وملامح وجهه المريح الباعث على الأمان. وفي موقف لا ينسى السعوديون، لم يجد الملك الأب حرجاً ليروي لطلابه المبتعثين حكايات من داخل أروقة أعلى هيئة رسمية في بلاده عن أهمية البترول في بساطته وعفويته قبل أن يختصر إستراتيجية مستقبل في قوله «أوقفتهم عن التنقيب كله، قلت ما دام البترول -ولله الحمد- فيه، وهذا الذي أقول إن الله يطول عمره، خلوا خزائن الأرض فيها لأبنائنا وأبناء أبنائنا وترثنا -إن شاء الله. وبلادكم -ولله الحمد- غنية بهذه كلها». ومما يُذكر في السياق ذاته ما حدث في مارس 2012 لدى استقباله أعضاء مجلس الشورى، وبجانب توجيهه لهم بأداء واجبهم تجاه دينهم ووطنهم، أبدى أسفه لهم بأنه لا يستطيع أن يصافحهم أو أن يحضنهم، وكرر أسفه لهم مرارًا، في بادرة إنسانية أبوية، يندر مثالها في أي بقعة من العالم، ولم نسمع بمثلها لدى الشعوب التي تنادي بالديمقراطية وتدّعي أنها راعية حقوق الإنسان، فليس هناك لحمة بين شعب وقادته على وجه البسيطة كاللحمة بين قادة هذه الأمة وفي مقدمتهم خادم الحرمين الشريفين، وبين الشعب السعودي الكريم. أب الجميع وحبيبهم عندما نستمع إلى كلمات خادم الحرمين الشريفين الموجهة للشعب أو للمسؤولين ندرك بأن علاقة الحب الأصيلة التي تجمع الملك عبدالله بن عبدالعزيز وشعبه، لم تأت من فراغ أو بمحض الصدفة، بل تأسست على أشد قيم التماسك النابعة من طبيعة العلاقة العفوية والصادقة، فضلاً عن إنسانية وفراسة الملك العادل الذي شغل المواطن كل تفكيره ليضعه في أولويات اهتماماته، حتى وهو يعيش أصعب اللحظات، ولعل كلمته الخالدة «دامكم بخير.. أنا بخير» تعد المعيار الحقيقي لقياس أبعاد تلك الروابط الإنسانية المميزة، التي تتضح جلياً في قوله -رحمه الله: «أيها الإخوة المواطنون أبنائي وبناتي أبناء هذا الوطن: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. تعجز الكلمات أن تعبر عما في نفسي من مشاعر تجاهكم ومؤازرتكم لي خلال الفترة الماضية، والتي استقيت العون فيها من الله - جل جلاله - توكلاً وعزماً وصبراً، على ما قدره الله، ثم بدعائكم ومحبتكم التي أخذت مكان الصدارة في قلبي، فتجاوزت - ولله الحمد - بفضله ومنته الكثير من الصعاب، فكنتم لي العون بعد الله تبارك وتعالى». الرابط الوجداني إن المتتبع لكلمات وخطب الملك عبدالله يدرك أن علاقته بشعبه علاقة أبوية لها إرثان شرعي واجتماعي عميقان، يتجليان في طريقة الخطاب ونوعية الكلمات التي تحمل دلالة عميقة تجسد قوة الرابط الوجداني بين الطرفين، ومنها عندما يردد - رحمه الله تعالى - بتواضعه الجم: «إخواني وأخواتي.. أبنائي وبناتي شعب المملكة الأبي»، بل إن تلك الخطابات عادة ما تقترن بالتأكيد على مصلحة المواطن وتبديد همومه، ويتضح ذلك في العديد من الكلمات ومنها خطابه الشهير الذي وجهه للمواطنين والمواطنات بعد صدور قرار تخفيض سعر البنزين والديزل: «أيها الإخوة والأخوات الكرام، ليعلم كل مواطن كريم على أرض هذا الوطن الغالي بأنني حملت أمانتي التاريخية تجاهكم واضعاً نصب عيني همومكم وتطلعاتكم وآمالكم، فعزمت متوكلاً على الله في كل أمر فيه مصلحة ديني ثم وطني وأهلي. مجتهداً في كل ما من شأنه خدمتكم. فإن أصبت فمن الله وتوفيقه وسداده وإن أخطأت فمن نفسي، وشفيعي أمام الخالق جل جلاله ثم أمامكم اجتهاد المحب لأهله الحريص عليهم أكثر من حرصه على نفسه». أحلك الظروف وفي أحلك الظروف، لا يبتعد المواطن عن ذاكرة الملك ولا تبرح همومه فكر هذا القائد الإنسان الذي يسعى في كل حالاته إلى تحسين وضع المواطن وتأمين الحياة الكريمة له، ونلمس ذلك من سؤاله عن المواطن وهو على السرير الأبيض وفي العديد من الكلمات التي وجهها للشعب وهو يمر بظروف صحية غير جيدة كقوله: «إخواني وأبنائي: أشكركم، وأتمنى لكم التوفيق، وأشكر كل واحد منكم رأيته وسلمت عليه، ولكن مع الأسف إنني لم أتمكن من أن أقف»، عندما نتأمل اعتذاره في هذه الكلمة للمواطنين عن الوقوف للسلام عليهم رغم معرفتهم وتقديرهم لظروفه الصحية، ندرك مدى تقديره واحترامه للإنسان السعودي، ونؤمن بأن هذا الملك الصالح لا يعفي نفسه من مسؤولياته تجاه المواطنين مهما كانت الظروف ومهما كانت أوضاعه الصحية، وهذا يؤكد أن المواطن هو الشغل الشاغل لخادم الحرمين الشريفين، يقول - رحمه الله تعالى - ذات لقاء جمعه مع الأمراء والوزراء وكبار المسؤولين وقادة وضباط الحرس الملكي، وجموع من المواطنين من أهالي منطقة مكةالمكرمة ومنطقة المدينةالمنورة: «إخواني، أرجوكم هذه تحياتي لشعب المملكة، شعب الوفاء وشعب الخير، شعب المقدرة شعب الأخلاق -ولله الحمد. وأنا ما أنا إلا خادم لكم، أنا ما أنا إلا أقل من خادم لكم، صدقوني أنني لا أنام إلا - ولله الحمد - سائلا عن كل المناطق ما هي الحوادث فيها، وش اللي ما صار وش اللي صار. ولله الحمد هذا ما هو كرم مني. هذا وفاء وإخلاص لكم، وحبكم لي لن أنساه، ولن أنساه مادمت حياً، أشكركم وأتمنى لكم التوفيق وأتمنى أن تعينوني على نفسي، وشكراً لكم». كيمياء الحب في كل عبارة من كلمة خادم الحرمين الشريفين السابقة عنوان يحمل الكثير من الأبعاد والدروس التي يقدمها الملك الإنسان لأبنائه المواطنين، ولا شك بأن كل عبارة كفيلة بأن تجعل عبدالله بن عبدالعزيز يسكن قلب كل مواطن ويحظى بمحبته ودعائه، فعندما يقول الملك للمسؤولين والمواطنين في بداية كلمته «أرجوكم» فإن هذه الكلمة بما فيها من لطف ورجاء تحمل العديد من الدلالات الإنسانية التي تجسد شخصية الملك عبدالله بكل ما فيها من تواضع، كما أن وصفه للمواطنين ب»شعب الوفاء» يكرس تلك الحقيقة لهذا الشعب الذي التف حول القيادة في أحلك الظروف التي مرت بها المنطقة، ولم يأبه بمحاولات العابثين الذين يسعون لزعزعة الأمن والاستقرار، بل كانت «ثورة الحب» التي رفع من خلالها المواطن السعودي صور الملك عبدالله مصحوبة بأصدق عبارات المحبة في مسيرات للفرح والسرور، هي أكبر دليل على كيمياء الحب الخاصة التي تربط ملك القلوب بشعب المحبة والوفاء، كما أن تلك الصورة الناصعة لتواضع ووفاء الملك تتجلى في قوله: «أنا ما أنا إلا خادم لكم»، كم هي عظيمة تلك الكلمات التي تأتي من قائد يقتدي بالرسول الكريم الذي يقول: «سيد القوم خادمهم، وساقيهم آخرهم شرباً». إن اهتمام الملك الراحل بأحوال المواطن يبرز في كل تصرفاته، ويؤكد ذلك من خلال قوله: «صدقوني أنني لا أنام إلا -ولله الحمد- سائلاً عن كل المناطق ما هي الحوادث فيها، وش اللي ما صار وش اللي صار»، هذه العبارة التي تجسد حرص هذا القائد على كل صغيرة وكبيرة تخص المواطن في المناطق كافة، تشعرنا كمواطنين بالفخر والاعتزاز تجاه هذا القائد الفذ، الذي ينفض النعاس ليسكن المواطن بديلاً عنه في عينه ووجدانه وفكره. المواطن والمسؤول ويبرز اهتمام الملك الراحل بالمواطن، في كل لقاء يجمعه بالمسؤولين، حيث يؤكد عليهم - رحمه الله - بأن يكون المواطن في أولويات اهتمامهم، وألا يغلقوا الأبواب في وجهه، وما زال الجميع يتذكرون كلمته الخالدة للوزراء والمسؤولين بعد إقرار ميزانية الدولة، إذ قال: «من هذا المنبر أقول لكل الوزراء ومسؤولي الجهات الحكومية كافة: لقد اعتمدت الدولة مشاريعها الجبارة ولم تتوان في رصد المليارات لتحقيق رفاهية المواطن، والآن يحتم عليكم دوركم من المسؤولية والأمانة تجاه دينكم وإخوتكم شعب هذا الوطن الأبي أن لا يتخاذل أحدكم عن الإسراع في تحقيق ما اعتمد، ولن نقبل إطلاقاً أن يكون هناك تهاون من أحدكم بأي حال من الأحوال، ولن نقبل الأعذار مهما كانت». إن هذه اللغة الحازمة تؤكد حرص الملك الراحل على وجوب اهتمام المسؤولين بالمواطنين، بعد أن وفرت الدولة في عهده كل ما من شأنه تحقيق رفاهية الموطن في المجالات كافة التعليمية والصحية والصناعية والتجارية والاجتماعية والتنموية. ويتجلى هذا الحرص على الشعب في لقائه مع ولي ولي العهد - آنذاك - الأمير مقرن بن عبدالعزيز وأميري المنطقتين الشرقيةوالمدينةالمنورة سعود بن نايف، وفيصل بن سلمان بمناسبة تعيينهم في مناصبهم، حيث قال لدى تشرفهم بأداء القسم أمامه في قصره بالرياض: «نبارك لكم ونحرصكم وأنتم لا تحتاجون إلى تحريص لخدمة الدين والوطن والشعب، والشعب تراهم أهم شيء عندنا، شعبكم خلوه راضي عنكم بالعدل والإنصاف والحق». الداخل والخارج وفي محطة أخرى تعكس حرص الملك الراحل على المواطن، وتؤكد أن ذلك الاهتمام لا يقتصر على الداخل، بل يمتد إلى حيث تواجد المواطن السعودي في كافة دول العالم، يقول الملك مخاطباً سفراء المملكة «أرجو أن تكونوا رسل خير لوطنكم، وكذلك أرجو منكم أن تستعملوا مع شعبكم الذي أنتم منه الرقة وفتح باب السفارة لا إغلاق السفارة.. السفارة ما وجدت إلا للشعب السعودي وخدمة الشعب السعودي. أي فرد يأتيكم مهما كان اعرفوا أنه من الشعب السعودي وأنا من الشعب السعودي وهو ابني وأخي لا تقولوا هذا ما له قيمة، إياي وإياكم، قدروهم واحترموهم لتحترمنا الشعوب.. أنا أسمع- ولا أتهم إن شاء الله - أن بعض السفارات تغلق أبوابها وهذا ما يجوز أبداً أبداً. لازم تفتحون أبوابكم وصدوركم، وتوسعون أخلاقكم للشعب السعودي». وفي هذه الكلمة يتكرر الرجاء، لكنه هذه المرة مقترناً بالحزم والتحذير، وكأن تلك الكلمة تجسد شخصية الملك عبدالله التي تجمع بين التواضع واللطف وبين الحزم والهيبة والشموخ، وهي معادلة فريدة تميز بها الملك عبدالله بين القادة العرب وأصبحت علامة بارزة منحته التقدير والاحترام في عيون شعبه وكذلك الشعوب العربية الأخرى.