ألقت ثورات الربيع العربي بظلالها القاتمة وآثارها السلبية على التراث الأثري، وصلت في بعضها إلى حالات كارثية. ففي جميع بلدان ما يسمى بالربيع العربي، تم رصد حالات لا تحصى من التعديات والجرائم ارتكبت بحق التراث الأثري منها؛ التدمير، والتشويه، والسرقة أو النهب والسلب، وانتعاش تجارة الآثار ورواج تهريبها، والنشاط المحموم للحفر والتنقيب العشوائي في مواقع التراث الأثري. بعد أن كان التراث الأثري في عالمنا العربي فريسة للنهب والسلب على مدار عقود من قبل الدخلاء عليه الطامعين فيه، أصبح ضحية أبنائه اليوم، بإهمالهم له، وتعديهم عليه، بل وتدميرهم أو إتلافهم له. ويتعرض التراث الأثري لمخاطر كارثية، في البلدان التي تعاني من الاضطرابات السياسية، والنزاعات المسلحة أو الحروب الأهلية، وما يصاحب هذه الظروف من فوضى، وانفلات أمني، وضعف هيبة الدولة وتراخي قبضتها الأمنية على المتاحف والمواقع الأثرية. والمتتبع للجرائم التي ترتكب بحق هذا التراث جرَّاء هذه الظروف، يُفاجأ بواقع مأساوي يتعلق بهوية الأمة وذاكرتها. فلم يكد يفيق حقل التراث الأثري في العالم العربي من كارثة الحرب الأهلية اللبنانية (1975- 1990م)، التي تشير التقديرات بأن أكثر من 200 موقع أثري أي ما يوازي 25% من المواقع التراثية الأثرية المسجلة في لبنان قد تعرضت للتدمير أو دمرت تماماً جرّاء هذه الحرب، حتى تعرض لكارثة أخرى أكثر فداحة تمثلت فيما تعرض له التراث الأثري في العراق أثناء الحرب الأمريكية عليه عام 2003م، من ويلات هذه الحرب، ومنها تدمير المكتبة الوطنية في بغداد، ونهب وسرقة ما يقرب من 15 ألف قطعة أثرية من متحف بغداد، وكذلك سرقة وقف المخطوطات التابع لوزارة الأوقاف، ودار الوثائق، وسرقة مركز الفنون الجميلة، ومتحف الموصل الشهير. ويصل إجمالي ما تم سرقته خلال هذه الحرب، كما يقدره البعض، إلى 170 ألف قطعة أثرية من مختلف المتاحف العراقية. ومع مطلع ثورات الربيع العربي في تونس 2011م، عرفت المواقع الأثرية فيها إهمالاً كبيرًا خاصة في الفترات الأولى التي أعقبت الثورة، الأمر الذي شجع تجارة القطع الأثرية، وتفاقم السرقات، وانتعاش تهريب الآثار. ثم ما لبث أن أعقب ذلك تدمير وتشويه المعالم الأثرية والتاريخية والاعتداء المتعمّد عليها. يضاف إلى ذلك تفشي ظاهرة التنقيب أو الحفريات العشوائية غير المشروعة في المواقع الأثرية، كما فقدت العديد من المواقع التراثية الأثرية هيبتها بعد أن أساء إليها التوسع العمراني الزاحف عليها. وفي مصر حيث التراث الأثري العريق، كان التعدي على المتحف المصري عشية جمعة الغضب يوم 28 يناير 2011م، فقد تمكن بعض المخربين من دخول المتحف وقاموا بكسر 13 خزانة عرض وبعثرة محتوياتها، وخلال ذلك تعرض ما يقرب من سبعين قطعة أثرية للكسر والتلف. كما لم تسلم مخازن الحفريات الأثرية من السرقة والنهب، منها: مخزن القنطرة في شرق سيناء، ومخازن مقابر سقارة، ومخزن سليم حسن في الجيزة، الذي هاجمه لصوص واستولوا على محتويات 11 صندوقاً من القطع الأثرية تم كسرها، ومخزن تل الفراعين، وموقع اللاهون بالفيوم، ووصل حجم المسروقات من المخازن والمواقع الأثرية نحو 1228 قطعة أثرية. وبعد مضي أحد عشر شهراً على قيام الثورة المصرية، يطال المجمع العلمي بالقاهرة، ذاكرة مصر منذ عام 1798م، حريق هائل في 17-18 ديسمبر 2011م إلتهم آلاف الكتب النادرة والقيمة. ولم ينجُ من محتوياته، البالغ عددها 200 ألف وثيقة ما بين مخطوطات وكتب أثرية وخرائط نادرة، سوى قرابة 25000قط. ومن الفواجع الأخرى التي مُني بها التراث الأثري في مصر اقتحام متحف ملوي في محافظ المنيا، ونهب محتوياته أثناء أحداث العنف مساء يوم الخميس 15 أغسطس وصباح يوم الجمعة 16 أغسطس 2013م، حيث لم يتبق سوى 39 قطعة أثرية من أصل 1089 قطعة، في أكبر عملية سطو مرت بها متاحف مصر. وامتد الأمر لعمليات تدمير، فقد تعرض متحف الفن الإسلامي لتحطم واجهته ذات الطابع المعماري المميز، وتهشم فاترينات عرض المقتنيات به، نتيجة للانفجار الضخم الذي استهدف مديرية أمن القاهرة صباح يوم 24 يناير 2014م. هذا وقد هيأت الفوضى والانفلات الأمني، مناخاً ملائماً لرواج تجارة الآثار وتهريبها، ولانتشار التنقيب العشوائي فتم الكشف عن 5697 عملية حفر غير مشروعة و1467 حالة إتجار غير مشروع و130 عملية تهريب، وما عاد المهربون يخشون البحث في الأماكن الأثرية البارزة كالأهرامات ومعابد الأقصر؛ حيث ظهرت عدة حفر عميقة على بعد أمتار من الأهرامات بالجيزة ودهشور ووادي الملوك. وفي ليبيا، تعرض التراث الأثري لتهديدات كثيرة، ولعل أولى وأكبر الكوارث التي تعرضت لها الآثار اللبيبة بعد الثورة على القذافي كانت في مايو 2011م، وهي حالة السرقة التي عرفت إعلامياً باسم سرقة «كنز بنغازي»، حيث تم السطو على قرابة ستة آلاف قطعة أثرية ثمينة كانت قد وضعتها مصلحة الآثار الليبية في بنغازي بخزانة إحدى المصارف الحكومية. وقد احتوى هذا الكنز على رؤوس تماثيل، وحلي، ومجوهرات، وقطع نقدية من معادن مختلفة، بالإضافة إلى قطع أثرية أخرى مختلفة الأشكال، والأنواع، والأحجام. كما تعرضت كثير من الآثار لسرقات من مواقعها الأصلية في مناطق صبراتة، ولبدة، وشحات، وتم تهريبها إلى الخارج. كذلك تعرضت بقايا كنيسة أثرية من العهد البيزنطي بوادي عين الخرقاء قرب البيضاء لتدمير تام في فبراير 2011م من قبل أشخاص أرادوا الاستيلاء على الأرض المقامة عليها. ولم تسلم المساجد والمقابر والزاوايا التاريخية من دعاوى التطرف والإعتداء والتدمير، مثل جريمة تدمير مقابر زويلة السبع التاريخية. وفي سوريا انقلب الربيع العربي إلى شتاء كابوسي من نزاع مستعر، لم تقتصر آثاره الكارثية على الخسائر البشرية والمادية المتصاعدة، بل امتدت إلى التراث الأثري الذي يتعرض وبصورة تكاد تكون يومية لعمليات تدمير وتخريب طالت المواقع والمتاحف على السواء. حيث سقطت كنوز سوريا التاريخية مثل القلاع الصليبية، والمساجد القديمة، والكنائس، والمتاحف فريسة للنهب والتدمير. كما دُمّرت معالم مدينة حماه الأثرية وأحياؤها القديمة، والتهديدات قائمة على مدينة حلب التي تُمثّل مدينتها القديمة أحد المواقع المدرجة في قائمة التراث العالمي منذ عام 1986م، وقد دُمّر سوقها التراثي العريق تدميراً بالغاً. كما تعرض الجامع الأموي في حلب لتدمير وتلف بالغ. وتم تدمير جزء كبير من مئذنة المسجد العمري بوسط مدينة «درعا» القديمة، أحد أقدم المساجد في العالم، وارتبط اسمه باسم الخليفة «عمر بن الخطاب» رضي الله عنه, الذي أمر ببنائه عند زيارته لحوران. فضلاً عن شيوع عمليات السرقة والنهب التي طالت تراث سوريا من قبل قوات المعارضة والحكومة على السواء. وقد بلغ عدد الآثار المسروقة 4000 قطعة حسب الإحصاءات الحالية منها الألواح المسمارية، والأفاريز، والتماثيل الرومانية، والنقود البيزنطية. وربما كان حظ التراث الأثري في اليمن أكثر من سابقيه في بلدان الربيع العربي. غير أنه لم يسلم بالطبع من الاستهداف اليومي بالنهب والسرقة، والتهريب، والتدمير، مثال ذلك ما تعرضت له مواقع أثرية في جزيرة سقطرى المدرجة ضمن قائمة التراث العالمي، من عمليات نبش ونهب وتدمير وسرقة محتوياتها. كما تفيد أنباء عن تعرض موقع براقش في الجوف للتدمير جراء حرب جماعة الحوثي القائمة مع الجيش هناك. كما تفاقمت الحفريات العشوائية في مواقع عدة من قبل عصابات التهريب. سبل المواجهة والمتأمل لما سبق ذكره، يدرك أن ما يلقاه التراث الأثري على أيد البشر أسوأ مما يلاقيه من عوادي الزمن وتقلبات الطبيعة. وهذا الجرح النازف للتراث الأثري في بلدان الربيع العربي يدق ناقوس الخطر في البلدان الأخرى ويفتح أعيننا على ما يعانيه هذا التراث من مخاطر تهدد بقاءه. وهذا يدفعنا جميعا، فرادى ومجتمعات، مؤسسات دولية وإقليمية وأهلية، أن نتعاون في الحفاظ على هذا التراث وحمايته. والحماية هنا لا تقتصر على الحماية المادية المتمثلة في ترميمه، وصيانته، والحفاظ على بقائه فقط، بل أيضاً؛ الحماية القانونية والتشريعية، وتفعيل التوصيات الصادرة عن المنظمات، والمؤسسات المختصة. والأمر في هذه الحماية المرجوة يبدأ بتوثيق هذا التراث جيداً وتسجيله تسجيلاً دقيقاً يحفظ ملكيته ولا يدع منفذاً لتهريبه، ويحتفظ بعناصره ومكوناته التي يمكن الرجوع إليها في إعادة بنائه أو ترميمه حال تعرضه لتشويه أو تلف أو تدمير. وأن يرافق تغليظ العقوبات المتعلقة بسرقة الآثار، والإتجار بها، وتهريبها، تكثيف وتطوير اجراءات مراقبة المناطق والمخازن الأثرية، ومواقع الحفريات، والمتاحف. والأمر يتطلب، كذلك، توعية، وتنوير، وتثقيف أفراد الشعب بأهمية الحفاظ على التراث. فمن الضروري تبني خطاب موجه إلى الجمهور وتوعيته بضرورة الإسهام في حماية التراث مع تزايد عمليات الحفر العشوائية غير المدروسة. وقبل هذا وذاك توثيق الصلة بين أفراد المجتمع وتراث بلادهم الأثري، عن طريق تعزيز الوعي به والتركيز على أهميته وقيمته في المناهج الدراسية والبرامج التعليمية، وتبني استراتيجية إعلامية توعوية. كما يمكن تبني مبادرة لشراء الآثار من المواطنين، وتقديرها التقدير المادي المستحق وتشجيعهم بنداءات وطرق مختلفة، كبادرة نحو منحهم الثقة للتعاون كخطوة أولى للتخلي عن الطرق غير المشروعة في التجارة والسرقة. ويأتي بعد ذلك سن القوانيين الرادعة، والحزم في تطبيقها، ثم التعاون الدولي وتفعيل الاتفاقيات الدولية المعنية بالحفاظ على التراث الأثري وحمايته أو التفكير في إعادة صياغتها، لإيجاد آليات حاسمة وعقوبات رادعة لإيقاف هذه الانتهاكات أو الحد منها ومحاصرة التأثيرات المدمرة للحروب والنزاعات المسلحة على التراث الأثري الذي مازال ينزف.