للمدينة المنورة ذكريات وأسرار تملأ عليّ أقطار نفسي: ولها سرائر في الضمير طويتها نسي الضمير بأنها في طيِّه ومن هذه الذكريات باب الكومة والمدرسة الناصرية، وهذه المدرسة لها تاريخٌ حافل، وقد حدّد عام 1344ه كبداية لهذه المدرسة في الحكم السعودي الميمون مع أنها عاشت عهدين قبله وقد تم التخطيط من عام 1391ه (وهو العام الذي التحق الكاتب بتلك المدرسة معلماً) لإقامة احتفالات بمناسبة مرور خمسين عاماً على إنشائها، وذلك في عام 1394ه أي: أن التخطيط لهذه الاحتفالات استمر أربع سنوات وتوزعت الأدوار وكل معلم يعمل على تنفيذ ما خصص له، ولا بد بدايةً ذكر بعض ما يبذله المعلمون رغم عدم وجود أي مزايا أو مكافآت، حيث إنّ: - الرواتب لا تتجاوز (خانة المئات)، والحصص ما بين (29-30) حصة والعمل ستة أيام أسبوعياً، مع تنفيذ النشاط عصراً، حيث تتحول المدرسة إلى ورشة عمل، ومع هذا النشاط والإنتاج العلمي لذلك الجيل فإنّ كلمة (مكاتب) للمعلمين غير معروفة آنذاك، ولاسيّما المكتب المستقل، ولعلّي أوفّق في وصف ما كنّا نجلس عليه. وهذا الوصف يمثّل الصورة الأولى من الذكريات: الصورة الأولى: كانت مقاعد المعلمين مشتركة حيث رصّت لوائح من الخشب بحيث تكون مقاعد متصلة وأمامها أدراج خشبية ويشترك كل اثنين في درج فأنا وزميلي الذي على يميني أشاركه في الدرج الذي أمامنا، وزميلي الذي على شمالي يشاركه معلمٌ آخر، وعلى المقعد الواحد (يُرَصّ) ستة معلمين وكان الدرج المشترك عجيبة من العجائب فأحيانا تجد به بقايا من الخبز الجاف وأحياناً بعض بقايا المراسيم وشظايا قلم قديم، وأحياناً أخرى بقايا الطباشير، وقد تجتمع كلها، وآونة أخرى تخرج منه رائحة كريهة وعند فتحه تجد (شُرَّاباً) ذهب صاحبه للوضوء، كما تحسّ أحياناً بوخز من الأسفل وتكتشف بأنه مسمار قد تآكل مِن حوله الخشب، ووجدتُ مرة قصاصة ورقة مكتوب عليها (كَسْرَة وجمعها كسرات وهي نوع من الشعر الشعبي وكان صاحبي مغرماً بها ولا أتذكرها الآن ولكن أذكر منها (أصل، وفروع) وتصوّرت وقتها أنها قيلتْ في ذات أصل ونسب رفيع مع طول وكثافة الشعر ويدل على ذلك كلمة كنت أحفظها (ودخلتُ في ليلين فرعِكِ والدُّجى) لأنّ جمع فرع فروع وذلك من قصيدةٍ رائعة لأمير الشعراء أحمد شوقي (يرحمه الله) حيث خاطب بها زحلة (أحد مصايف لبنان). ودخلت في ليلين فرعِكِ والدُّجَى ولثمْتُ كالصبح المنوّر فاكِ وتعطلت لغةُ الكلام وخاطبتْ عينيَّ في لغة الهوى عيناكِ ومن باب الأمانة العلمية قلتُ لزميلي إني وجدت في درجنا قصاصة بها كذا وكذا، قال: نعم هذه كسرة قيلت في القثّاء.. القثّاء؟؟!! وكلمة (فروع)؟؟ الفروع هي صغار القثاء تكون غضة وطرية ولذيذة الطعم!! هكذا كانت مكاتب المعلمين مع إخلاصهم في العمل وغزارة إنتاجهم. الصورة الثانية: استعداداً للاحتفالات قام كل معلم -كما قلتُ سابقاً- بما أسند إليه، سواءً ما يتعلق بتنظيم السجلات أو إعداد فقرات للاحتفالات التي بدأت فعلاً عام 1394ه وكان منها: - برنامج من إعداد وتقديم مدير التربية والتعليم بمنطقة المدينةالمنورة الأستاذ الأديب المربي عبد العزيز الربيع- يرحمه الله- وهذا البرنامج يتلخص في مقابلةٍ يجريها بنفسه بين معلم (قديم) وطالب دخل معترك الحياة حيث أصبح تاجراً أو موظفاً ليظهر البرنامج مدى تغيير اتجاهات الطالب ودور المعلم في اختيار الطالب لعمله الحالي وكان المعلم الذي اختاره قد غادر المدرسة آنذاك قبل (25 عاماً)، وربّما يكون قد تقاعد، أما الطالب الذي تمّ اختياره لمواجهة هذا المعلم فقد تجاوز الأربعين وأصبح تاجراً، وبدأ اللقاء وقال (الطالب قديماً) والتاجر حالياً بأن الأستاذ فلان أي: الذي أمامه على طاولة النقاش كان غليظ الطباع ويعاقب بقسوة فإذا انكسرت (الخشبة أو العصا)، يرفس ويتفل (يبصق)، فقد بصق في وجهي مرةً ورفس زميلي وهنا اشتدّ غيظ المعلم وثار على الطالب وانقلبت حلقة النقاش إلى (مضاربة) وشارك الحضور في فضّ الاشتباك. أنقل هذه الصورة لأن إعادتها من قِبل الطالب تمّ بعد ما يقارب (30) عاماً حيث إن كل حركة تصدر من المعلم يتذكرها الطالب ولو بعد حين. الصورة الثالثة: كان من ضمن برنامج الاحتفالات استدعاء بعض خريجي المدرسة الناصرية القدامى ولاسيّما أصحاب المناصب للمشاركة بذكرياتهم بإلقاء محاضرة أو قصة حياته ومنهم معالي الدكتور أحمد محمد علي المدني مدير البنك الإسلامي للتنمية (حالياً 1436ه) حضر عام 1394ه وكان وكيلاً لوزارة المعارف أيام وزيرها معالي الشيخ حسن آل الشيخ فقد لبّى الدعوة وحضر وألقى محاضرة على الطلاب أثناء الفسحة الكبيرة فمنهم من يستمع إليه ومنهم من يلعب؛ ولأن الفسحة هامة بالنسبة للطلاب أراد معاليه أن يستمتع الطلاب بفسحتهم. وآمل إبلاغ معاليه بأن طيبة تحنّ إلى أبنائها ب (أحوشتها) وساحاتها وشوارعها، بل وأزقتها بما في ذلك زقاق (عانقني)!!.