قادني حبي وعشقي لكرة القدم أن أقرر في أحد الأيام القريبة الماضية الذهاب لمشاهدتها على الطبيعة في ملعب الملك فهد الدولي ربما طلباً للاستزادة من المتعة، ورغبة في النسيان المؤقت لضغوط الحياة العملية والأسرية، وكسراً لروتين الجدول اليومي الذي اعتدت على ممارسات طقوسه المعتادة، لكن المتعة التي كنت أنشدها وكانت الدافع الأكبر خلف قرار الذهاب إلى الملعب خدشها وأفسد متعة المشاهدة أشكال من الممارسات الكلامية، والجسدية، والانفعالات التي قالها وقام بها الكثير من الجمهور الرياضي الذي كان حاضراً في تلك المباراة. وليس من باب المبالغة وتهويل الأمرحين القول: إنني ذهلت وصعقت لما طرق مسمعي من عبارات ومواقف ترجمتها كلمات نظارة المباراة لدرجة أنني عاهدت نفسي ألاّ أعود مجدداً لتكرار التجربة بسبب أنني أفضل أن أكون مغيباً عن ذلك المستوى غير الحضاري البتة الذي يمارسه العديد من الجماهير الرياضية التي تحضر مباريات كرة القدم في ملاعب كرة القدم السعودية، وتحديداً السلوك اللفظي العدائي. والسؤال الذي تملكني واستولى على تفكيري منذ أن غادرت قدماي أرضية ملعب المباراة في تلك الليلة كان ما الذي قاد إلى هذا السلوك الرياضي غير الحضاري الذي يلمسه الحاضر في مباريات ملاعب كرة القدم السعودية؟ والسبب في رأيي أن ذلك ولدته إفرازات وسلوكيات ثقافية واجتماعية عديدة، ويأتي في طليعتها -في ظني المتواضع - داء مصادرة رأي الطرف الآخر، وغياب الروح الرياضية السامية، وغياب الوعي والفهم الصحيح لمفهوم الرياضة، وللإعلام الرياضي دور حاضر في ذلك أيضاً. مرت دقائق المباراة عصيبة عليّ بعض الشيء، وكنت أحسب الدقائق واحدة تلو الأخرى حتى أتوارى عن مشهد سماع العبارات والتعليقات النابية التي كان يتفوه بها الكثير من الجمهور الرياضي عندما يقوم اللاعب الخصم بتجاوز زميله من الفريق الآخر، أو حين الالتحام القوي غير المقصود، أو في حالة احتسب الحكم خطأ ضد فريق هذا المشجع، أو ذاك، أو في غيرها من المواقف والحالات التي يتلقفها المشجع بصيحات الاستهجان، والسخرية، والتجريح الشخصي عند ذكر اسم فلان، أو علان من لاعبي الفريقين، والهتافات العدائية تجاه الحكم، وإداريي الناديين، وضد جمهور الفريق المنافس، وغيرهم من الحضور. وخيل إليّ حينها أن ذلك لا تفسير له سوى أنه انعكاس لمثلبة مصادرة الرأي الآخر وثقافة الإقصاء بقولبة تتماشى مع طبيعة الميدان الرياضي، ولكنها تقتبس من مبادئ هذا المسلك المشين بدليل أن المشجع القابع في المدرج لم يكن يرضى أن يقوم لا عبو الفريق الخصم بأي جهد يفوق به أعضاء فريقه المفضل لديه، وتجده بدلاً من تحية وتقدير الجهد المميز المبذول من الطرف الآخر يعمد إلى التجريح الشخصي، والتفوه بالعبارات النابية للاعب الفريق الخصم الذي قام بتأدية العمل المميز، والأمر نفسه يسري على القرارات التي يتخذها الحكم فإن كانت مخالفة لما يهواه ويريده تجده أيضاً يصب جام غضبه بعبارات وكلمات سوقية ليس المقصود بها محاكمة القرار والاعتراض على عدم شرعيته، وإنما يتركز حول ذات الحكم، وعدم أهليته لأن يتخذ قراراً بمثل هذا المستوى، وقبل ذلك قدرته على تحكيم مباراة كرة قدم. ومن هنا وجدنا أن تصرف الكثير من الجماهير الرياضية التي تحرص على متابعة مباريات كرة القدم في الملاعب تحديداً يمكن أن ينظر له من زاوية أن المنافس في واقعه ضد كريه يجوز وصفه بأقذع الصفات، ورميه بما ليس فيه. وبجانب ذلك نجد أن غياب الروح الرياضية السامية، وكذلك تواري وانزواء الوعي والفهم الصحيح لمفهوم الرياضة أسهم في خلق جيل رياضي يتخذ من السلوك اللفظي غير الحضاري وسيلة للتعبير عند مشاهدة كرة القدم الذي هو نتيجة لافتقار ذلك المشجع لمكونات الروح الرياضية التي تنادي بضرورة تقبل النتيجة، واحترام المنافس، والاعتراف بتفوقه، واحترام حتى أعضاء فريقه عند تعرضهم للخسارة، وضبط النفس، وتحول تفضيل فريقه إلى حقد على الطرف المنافس، وصار التشجيع في مفهومه هيجاناً. ولذا نجده عوضاً عن الامتثال لتلك القيم يقوم أثناء سير المباريات بممارسة أنماط سلوكية سلبية تتمثل في الصراخ، والشتم، وغيرها من صنوف العدوان الكلامي ربما اعتقاداً منه أنه بحكم أنه ضمن حشد جماهيري فهو في حل من الضوابط الرياضية التي تدعو لها وتنادي بها مفاهيم الروح الرياضية، واللعب النظيف. وكذلك يأتي دور الإعلام الرياضي الذي له نصيب كبير في إذكاء هذا السلوك الذي جعل الكثير من محبي مشاهدة رياضة كرة القدم السعودية في الملاعب يتشكلون في هيئة أبعد ما تكون عن المشاهد الرياضي الحضاري الذي يذهب للملعب ليستمتع بمشاهد كرة القدم، ويشجع فريقه بطريقة حضارية تنم عن وعي رياضي حضاري يتماشى مع واقع المرحلة الاحترافية التي تعيشها الرياضة السعودية. وهذا التشكل، أو الخلق في السلوك غير الايجابي جاء نتيجة تواجد كم من المادة الإعلامية المرئية والمقروءة غير الهادفة التي يطغى عليه التعصب، والانسياق وراء الأهواء والميول الشخصية التي لا تترك مساحة للعمل المتوازن الذي يمنح فرصة متساوية للجميع على طاولة الإعلام الرياضي، ويمنح كل ذي حق حقه من دون اعتبارات وحسابات غير صحيحة، والعمل دوماً من بوابة تعبئة المتابع الرياضي بشكل يؤجج في دواخل ذواتهم الحماس المفرط ذا المنحى السلبي، والتعصب الرياضي الممقوت. وإزاء هذه الوضعية يجب أن تتكاتف الجهود من أجل الحد من السلوك العدواني اللفظي الذي تتسم به شريحة كبيرة من متابعي كرة القدم في ملاعبنا الرياضية والحاجة لذلك تبدو ملحة عند النظر إلى أن الرياضة تعد اليوم من أهم الوسائل التي تحقق الحراك الاجتماعي، كما أنها تقود إلى الاستقرار الانفعالي والاتزان لدى جميع أفراد المجتمع، وفئة الشباب تحديداً. وكذلك لها دور في النهوض بالصحة العامة، والتطور الاجتماعي. كما أن لها إسهاما في تحقيق السلم الاجتماعي، وتعزيز الانتماء. ومن هنا فنحن حتى يمكننا أن نقضي على هذا السلوك اللفظي العدواني بحاجة إلى القيام بعدد من الإجراءات التربوية، والمؤسسية، والإعلامية، وكذلك الأمنية. فالمؤسسات التربوية والتعليمية، والرئاسة العامة لرعاية الشباب، والجهات الرسمية الأخرى يجب أن يكون همها العمل بكل ما أوتيت من قوة، وتستخدم كل طاقتها وإمكانات لزيادة جرعات الوعي الرياضي منطلقة في ذلك من حقيقة أن الرياضة أداة للمتعة والترويح عن النفس لا مرتعاً خصباً لتوالد مكنونات التعصب الرياضي، والعدوانية والسلوك اللفظي غير السوي. وكذلك مد مشجعي كرة القدم بوسائل وطرق تمكنهم من التحكم والسيطرة على انفعالاتهم. وأيضا تلك المؤسسات بحاجة إلى تبني خطط وبرامج تهدف إلى تحقيق جملة من المبادئ التي منها تنمية الروح الرياضية لدى النشء، وتعليمهم القيم الاجتماعية الرياضية، وتشجيعهم على التحلي بالروح الرياضية، واحترام المنافس، وتشجيع الأداء الجيد، وتعليمهم ضوابط الروح الرياضية، ومساعدتهم على تنمية منظومة من القيم الرياضية، والعمل على إبعادهم عن السلوك العدواني وغرس السلوك الإيجابي. إضافة إلى نشر ثقافة التشجيع المثالي ذي التأثير الإيجابي، وتبيان أهمية احترام الحضور الذي قدم إلى الملعب رغبة في الاستمتاع بمشاهدة كرة قدم جميلة لا تشوبها شوائب الهتافات والتعليقات البذيئة. والإعلام يجب أن يكون له دور في عدم تأجيج واستثارة متابعي ومحبي كرة القدم السعودية وذلك من خلال انتقائه لصحفيين وإعلاميين يمتازون بالحيادية، والموضوعية، والطرح العقلاني في موادهم ومقالاتهم وتغطياتهم الصحفية، والاهتمام بعدالة النشر الإعلامي لجميع الفرق المنافسة، والبعد عن النقد السلبي الذي يؤدي إلى الإثارة السلبية. وفي الوقت نفسه يجب أن تسعى وسائل الإعلام مقروؤها ومكتوبها في طرحها التأكيد على أهمية ضبط النفس بقدر يكفل خروج منافساتنا بكل روح وأخلاق رياضية، ومحاولة غرس القيم الرياضية السامية، ومساعدة متابعي كرة القدم، وبخاصة النشء على ضبط انفعالاتهم، ونبذ العنف، والتعصب.، كما أن عليه مسؤولية توظيف كل أسلحتهم الإعلامية من أجل مكافحة السلوك الرياضي السلبي، وحث الجماهير على التحلي بالروح الرياضية، وفوق ذلك كله تكوين رأي رياضي عام يترفع عن السقطات السلوكية ذات الطبيعة السلبية المشينة. وإضافة إلى الخطوات والإجراءات المؤسسية والإعلامية ينبغي أن يكون هناك احتياطات أمنية تأخذ في حسبانها الجانب ، أو الشق التوعوي أكثر من السعي نحو استخدام العقاب الأمني كوسيلة للحد من السلوك العدواني في ملاعب كرة القدم. وذلك من خلال بث فرق رصد تقوم عن قرب بمتابعة الجماهير الرياضية المخالفة ومن ثم استدعاءها والشرح لها النتائج الأمنية، والقانونية المترتبة على مواصلة الاستمرار في هذا النهج السلوكي اللفظي غير الحميد داخل أروقة الملاعب الرياضية. والإجراءات الأمنية الأخرى تكمن في توفير وسائل الأمن والأمان داخل الملاعب، واتخاذ كافة الوسائل التي تضمن المحافظة على النظام والأمن، والسلوك الرياضي الرصين. وكذلك العمل مع الجهات ذات الاختصاص لوضع ميثاق شرف يقود إلى التخلص من السلوك العدواني مبيناً فيه أوجه العقاب والثواب لمن يلتزم بالسلوك الرياضي لحميد ومن يخالف. وهكذا يتضح أن السلوك اللفظي العدواني العنيف الذي يتصف به الكثير ممن يفضلون متابعة المباريات في الملاعب الرياضية بحاجة ماسة إلى وقفة جادة تتضافر فيها الجهود لتهذيبه كمرحلة أولى ومن ثم توفير الأسباب الكفيلة للقضاء عليه حتى تكون الأصداء التي تتردد في ملاعبنا عنوانها الأبرز التنافس الشريف، والتشجيع المثالي الخالي من السلوك اللفظي العدواني البغيض.