كنت ماشياً ذات مرة ورأيت ثلاثة يمشون، فلما حاذيتهم سمعت أحدهم يهتف: «يا جماعة، أي شيء، فقط دعونا نأكل!»، حينها ضحكت، فرغم أني لم أسمع سابقَ كلامه إلا أني فهمت مقصده فوراً، فهذا المكان يمتلئ بمطاعم كثيرة متجاورة تبيع شتى ألوان الطعام، ويظهر أن الاثنين الآخرين احتارا من كثرة هذه الخيارات، فتارة يتجهون لمطعم الشطائر، ثم يغيرون رأيهم لمطعم سريع، ثم تجذبهم رائحة الشواء لمكانٍ ثالث، وهكذا دواليك، حتى وصل صاحبنا لنهاية جوعه ورغب الأكل في أي مكان مهما كان! نظن أن كثرة الخيارات شيء ممتع، وهذه تبدأ منذ الطفولة، فيرغب الطفل في كل الألعاب التي يراها في المتجر، ويبكي إذا لم يشترِ له أهله إلا لعبة واحدة، ولا تكفيه قطعة حلوى بل يريد أنواعاً أكثر وكميات أكبر. يكبر الإنسان وتظل معه هذه الرغبة في الاستكثار من الأطايب والسلع، ومعظم الناس لا يستطيعون أن يشتروا كل شيء، لكن هناك قلة قليلة من المبذرين الذين يبتاعون الكماليات بشكلٍ متتابع لسنين لا لشيء إلا للتفاخر ولإشباع شهوة الاقتناء، غير أنك لو نظرت لهذه القلة القليلة من الماديين لما شعرتَ بالرغبة أن تكون مثلهم، بل لحمدتَ الله أنك ممن لا يقدر مادياً على شراء كل شيء! لماذا يا ترى؟ هل يُعقل أن شخصاً لديه أشياء قليلة أسعَد من شخصٍ لديه كل شيء؟ نعم! أولاً يجب أن نَعرف شيئاً: إننا لا نعرف أنفسنا كما نظن. خذوا التقنية مثالاً: في الماضي كان الناس يتخيلون (وبنشوة) الاختراعات التي ربما تظهر مستقبلاً مثل كاميرا تُوصَل بالهاتف تجعل الشخص يسمع ويرى شخصاً في مدينة أخرى، ويظن الظان أن هذا الاختراع لو ظهر لغيّر كل شيء ولصار شيئاً كبيراً يتحدث عنه الناس، وهذا الاختراع موجود اليوم في الكثير من الهواتف المتنقلة، فماذا حصل؟ لا أحد يكترث! هذا يقودنا للمسألة الثانية، وهي أن الإنسان ملول ولا يُشبِع طمعه شيء. من لديه لعبة سيريد غيرها، وإذا حصل عليها رغب في الثالثة، إلى ما لا نهاية. أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هذا لما قال: « لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى ثالثاً». وهذا أيضاً يجرنا للنقطة الثالثة وهي أنه حتى قبل أن يشتري الشخص شيئاً فإن كثرة الخيارات محيرة وتسبب التشتيت وليس الفرحة بتوافر البدائل، فهؤلاء الرجال الثلاثة لو كان لديهم مطعمان فقط لسَهُل الاختيار، ويستطيعون التنويع لو أتوا المرة القادمة، لكن الذي لديه 10 مطاعم فإذا أكل في أحدهم فربما يندم ويقول: «لو أننا أكلنا في الفلاني لكان أفضل»، ولو أنه أكل هناك لربما تمنى الأول! استمتع بما لديك، ولا تظن أنك لو حصلت على مطلوبك لصرتَ أسعد أكيداً، بل ترينا الحياة أن الفتور هو المصير، وربما حتى الضجر والتسخط.