إنها سنة الله في خلقه، و إرادته في كونه، خلق الموت والحياة، وجعل الموت عِبرة، فما ذُكر في ضيق إلا وسَّعه، ولا سعَة إلا ضيقها! وكفى به واعظاً. فكم للموت من هيبة وفزع، وكم له من أثرٍ غائر في النفوس! لكنها رحمةٌ للمؤمن؛ فلا يطول لبثه في الدنيا، ولا تطول مكابدته لهمومها. فهنيئاً لمن فارق الدنيا وقد رضي الله عنه، وترك ذكراً طيباً وثناءً عاطراً. وذلك ما أحسستُ به وأحسّ به الآخرون، وفاح عطره، وتتابع وصفه والحديث عنه. وذلك ما كان لما توفي جدي الغالي الشيخ عبدالله القصبي رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه الفردوس الأعلى، فقد تملكتني مشاعر لم أستطع التعبير عنها وأنا أشهد الصلاة عليه أمام الكعبة المشرفة، وحين اتباع جنازته، والوقوف عند قبره، والمشاركة في دفنه. فكم كانت من لحظات! ويا لها من زفرات، خالَطت شغاف القلب لولا طمأنينة قذفها الله تعالى في القلوب، وملأت المكان، فخففت من وقع المصاب وهطْل الدموع ونظراتِ الوداع الأخير للراحل العزيز. تأملت كيف يكون للإنسان أثرٌ على الناس في حياته وبعد مماته، وكيف يصل الإنسان إلى القلوب فتحبه حياً وميتاً! إن الثناء على الإنسان حال الحياة ربما كان فيه حظٌّ للنفس.. أما أن يكون الثناء بعد الوفاة فهو درس في الإخلاص وصدق المشاعر. إذا اشتبكت دموع في خدود تبيّن من بكى ممن تباكى تأملت كم كان للفقيد من بصمات خير وإحسان على من يعرف ومن لا يعرف، وكم أعطى من ماله وجهده ووقته! كم كان عصامياً، وفياً لوطنه، محسناً إلى القريب والبعيد، صاحب كلمة و قرار وحضور بارز وبيان وعقلٍ وحنان وقوة جَنان! نظرات المعزين، ودموع المواسين، من كبار، وأعلام، ومن خاصة الناس، وعامتهم.. كأنها أمام عيني الآن. كلمات ثنائهم العاطر، وتقديرهم للفقيد كأني أسمعها الآن! هم شهداء الله في أرضه، ففي صحيح مسلم أنه مُرّ يجنازة فأثني عليها خيراً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((وجَبَتْ وجَبَتْ وجَبَتْ)) فلما سُئل عن ذلك قال: ((من أثنيتم عليه خيراً وجبت له الجنة)) ثم قال: ((أنتم شهداء الله في الأرض. أنتم شهداء الله في الأرض. أنتم شهداء الله في الأرض)) والحديث أصلُه في صحيح البخاري. فاللهم إنا نثني على والدنا عبدالله خيراً، وندعوك أن تغفر له وتفسح له في قبره مَدَّ بصره، وتجعله يوم القيامة من الآمنين. اللهم كما جمعتنا به في الدنيا فاجمعنا به في الفردوس الأعلى على سرر متقابلين. اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده، و(إنا لله وإنا إليه راجعون).