تشير أعداد السعوديين النافرين للانضمام ل « داعش « إلى مؤشرات خطرة لا بد من التوقف عندها واستيعاب مدلولاتها؛ لتفكيك ظاهرة « الدعشنة « في مجتمعنا. إن ألفا أو عشرة آلاف لا يعدون شيئا قياسا إلى عدد سكان المملكة؛ لكن الرقم يمنحنا دلالة إلى تأثير هذا الفكر المريض بصورة أو بأخرى على أعداد من أبناء بلادنا، ولا أقول شريحة أو طبقة؛ فالأغلب والكثرة الكاثرة هي المعتدلة. يحسن بنا أن نتنبه إلى أن الاستقطاب الداعشي ليس مقصورا أو مركزاً على السعوديين؛ فالنسبة السعودية يماثلها أو يفوقها أحيانا نسب أخرى من بلدان عربية كتونس أو مصر أو الجزائر أو المغرب أو اليمن أو ليبيا وغيرها، ومثلها أيضا قلت أو كثرت استقطابات لمئات من أوروبا وأمريكا وأستراليا وغيرها. لكن مؤشر النسبة السعودية التي تقدر في المتوسط ما بين ثلاثة آلاف إلى أربعة توحي إلى أن لهؤلاء النافرين بيئة اجتماعية حاضنة تجعلهم صيدا سهلا لشراك التنظيم؛ فالتطرف الذي عشش في بيئتنا أكثر من ثلاثة عقود بكل أطيافه؛ من صحوية إخوانية أو تبليغية انعزالية أو سلفية جهادية لم يكن إلا ثمرة لما كانت تمور به بيئتنا الاجتماعية منذ مطلع التسعينيات الهجرية من القرن الماضي بعد استضافتنا الإخوان المسلمين الذين هربوا من ديارهم، ثم اشتغلوا على استنبات بذور لفكرهم في بلادنا بعد أن ضاقت بهم أوطانهم، وما نتج عن ذلك من تنشيط للحركات الفكرية الأخرى التي كانت كخلايا نائمة ( السلفية والتبليغية) لتحافظ على مكانتها ونصيبها من التأثير في المجتمع؛ فتخرج مع مطلع 1400ه جيل جديد مشتت الاهتمامات الأيدلوجية بين هذه التيارات الثلاثة، وأصبح التنافس واضحا على استمالة أكبر عدد من الشباب؛ فكان نصيب الإخوان المسلمين الأكثر والأوفر؛ لأسباب عديدة لا محل لذكرها الآن؛ ولكن الأهم منها أنه كان الأقدر من حيث اكتسابه التجربة السياسية والنضالية في مواطنه الأولى وامتلاكه قدرات فائقة في البراجماتية والتشكل والتلون وممالأة السلطة ومخاتلة المجتمع إلى أن تمكن وغرس أنيابه في كل مفاصل الدولة طوال ثلاثين عاما، بدءا من معلم المرحلة الابتدائية إلى الدراسات العليا، ومن رئيس القسم في أصغر دائرة إلى ما يعادل مرتبة وزير في أكثر من موقع حكومي؛ لقد خرج الإخوانيون المهجرون من ديارهم تلاميذ أوفياء بررة بفكرهم؛ فتولى التلاميذ السعوديون نشر الفكر الإخواني بهمة ونشاط وحماسة مدفوعة بالفطرة الدينية والروح الإسلامية التي تتماهى مع كل ما يمت إلى الإسلام بصلة. ولأن الذكاء السياسي كان طابع حركة الجماعة طوال تاريخها لم تزج بنفسها في معترك العنف إلا بحسابات دقيقة؛ فأبقت على كوادرها التي شبت عن الطوق ووصلت إلى مراكز عليا في الإدارة والتوجيه والتأثير الفكري بما نراه أمامنا اليوم، وخفت أو تشتت أتباع التيار « السلفي الجهادي « لأنه يزج بالمنتمين إليه في محارق الموت الجهادي في كل مكان من العالم، وضاع التبليغيون أو يكادون؛ لأنهم لا يملكون الذكاء السياسي ولا الحضور الاجتماعي ولا التماس الوثيق والعميق مع المتوتر الساخن من قضايا المسلمين؛ فرسالتهم تتسم دائما بالسطحية الوعظية وبالتوجه إلى العامة والرعاع والدراويش والراغبين في العزلة الصوفية والانتجاع إلى الأسفار البعيدة؛ وكأن هذا العناء الذي يتكبده « الأحباب « ليس في حقيقته إلا بمثابة حالة تطهر أو تكفير أو خلوة مع النفس والتقاء للمتشابه المتناغم من تلك الأرواح البشرية القلقة الراغبة في السكينة والطمأنينة بالانتجاع والعزلة. ربما يطمح الأحباب إلى ما وراء العزلة؛ ولكن أدواتهم لم ولن تمكنهم من تحقيق غاياتهم الخفية. لقد حاز على التأثير البالغ المدمر أولئك الذين فجروا النص السلفي بالمنفستو الإخواني القطبي؛ فتولد الفكر القاعدي لابن لادن والظواهري والزرقاوي ويوسف العييري وصف طويل ممن وظفوا ومزجوا بين التيارين السلفي والقطبي، ثم تولد الابن الداعشي الخديج المشوه الذي يقود حريق عالمنا العربي الآن.