قد رحل عن هذه الدنيا يوم الاثنين الماضي (27 ذي القعدة 1435ه) الأخ حمد بن صالح القاضي .. أسكنه الله الفردوس الأعلى.. لقد كان نعم الأخ لي ونعم الأب لأهله والجار لجيرانه والقريب لأقربائه ومهما اتسعت الدائرة سنجد من يدخل فيها ممن يثني عليه رحمه الله.. ترك مسقط رأسه عنيزة منذ أواخر الخمسينات الهجرية من القرن الماضي طلبا للعلم في مكة والبحرين، ومن عنيزة تم ابتعاثه للولايات المتحدةالأمريكية عام 1368ه أي بعد نهاية الحرب العالمية الثانية بثلاث سنوات.. وهو أول طالب يبتعث من مدينة عنيزة (وربما القصيم) إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية ... وعندما عاد للمملكة خدم في مطار الظهران ثم في الرياض في وزارة المواصلات، حتى ذهب لشركة الزيت العربية في الخفجي قبل نحو أربعة وأربعين عاما ...وخدم في الشركة وتقاعد منها وبقي فيها. لقد أحب مدينة الخفجي وأحب أهلها وأحبوه، ولذا لم يستطع مغادرتها حتى وفاته، وقد بقي فيها بعد التقاعد يمارس بعض الأعمال التجارية يساعده ابنه ومدير أعماله معاذ وابنه البكر هاني. وعرف عنه في مدينة الخفجي حبه للخير فقد كان يبذل ما في وسعه للمحتاجين، كما كان - رحمه الله - يهتم ببناء المساجد فيها فقد بنى عدة جوامع ومساجد منها جامع عبد الله بن مسعود الذي تمت الصلاة عليه فيه، وجامع الريان، وكان من داعمي المستودع الخيري في الخفجي. كما لم ينس مسقط رأسه فقد أوقف عمارة له في حي الملز على جمعية المعوقين في مدينة عنيزة. وله أياد بيضاء في دعم الأعمال الخيرية في داخل المملكة وخارجها. وهنا لن أتحدث عن أعماله الخيرية، فأنا لا أعرف منها إلا ما أسمع وقد كان هو نفسه حريصا على عدم ذكرها أثناء حياته، على الرغم من أن الكثير من حوله وممن استفاد منها يعرفها. إنما أورد هنا بعض ذكرياتي معه رحمه الله. منذ عرفته وهو في مدينة الرياض وآنذاك كنت في مدينة عنيزة وطالبا في معهدها العلمي... وكان أبو هاني يحب الأدب ووافق ذلك في نفسي هوى، حيث كان الأدب من شعره ونثره فضلا عن كونه مادة مقررة لطلاب المعهد العلمي فهو هواية محببة لدى الكثير من طلاب المعهد، وكان الشغف يملأ قلوبنا لننهل من معين كتب الأدب خارج ما هو مقرر دراسيا، يشجعنا في ذلك أساتذة لهم باعهم في هذا الفن مثل الاستاذ محمد الحميدي والأستاذ عبد الرحمن التركي (والد الزميل الدكتور إبراهيم التركي). وقد كنت أراسل أخي رسائل فيها الكثير من أساليب هذا الفن الجميل، وكان يعجب بها ويرد علي بمثلها مما جعلنا على اتصال دائم. وأذكر أنني سألته إن كنت أثقل عليه بالإطالة في حديث الرسائل فرد علي: أخاك أخاك إن من لا أخا له كساع إلى الهيجا بغير سلاح لقد استمر اهتمام أبو هاني بالأدب وكان في مجالسه الخاصة يتبادل الكثير من النوادر والطرائف الأدبية، فضلا عن تبادل إهداء الكتب معي ومع الكثير من محبي هذا الفن، مثل الاستاذ حمد العبد الله القاضي. وكان في مجالسه الخاصة يشجع على المساهمة بالكتابة في «مجلة الخفجي» التي تصدرها شركة الزيت العربية وتنشر فيها مقالات في شتى العلوم، وقد كنت أنا والزميل الدكتور عبد الله الدايل ممن استجاب لتشجيعه والكتابة فيها. عندما كنت في أيام شبابي الأولى في عنيزة أدعوه لزيارتنا في مسقط رأسه عنيزة، وأحدثه بما يجري فيها من هدم وتوسعات لشوارعها ونمو عمراني ويملؤني في ذلك الحماس لمدينتي عنيزة، وكان هو يسألني عن معالم قديمة فيها وأقول له إنها الآن غير موجودة بسبب التطوير القائم في المدينة, فيقول لي أنا إن جئت فسآتي لاستعادة ذكرياتي فيها فلا تقل لي إنها زالت... دعها ذكريات أتصور أنها ما زالت حية.. وقد كنت أكرر زياراتي له في مدينة الرياض خلال عطل الصيف أيام الطفولة والشباب حيث أجد متعة في اللعب، حفظ الله من بقي ورحم من توفي منهم. لقد سافر من عنيزة عام 1368ه مبتعثا للولايات المتحدةالأمريكية في وقت لا تعرف فيه الناس معنى الابتعاث وربما الكثير لا يدري أين تقع الولاياتالمتحدةالأمريكية. يقول لي كنت نائما في السطح مع والدتي وسمعنا طرقا شديدا على الباب بعد صلاة العشاء بنحو ساعة وهذا أمر مستغرب آنذاك، فيقول سألت والدتي من «كوتالة المنفوح» بالسطح عن مراد الطارق فقال دعوا ابنكم حمد يقابل غدا أمير عنيزة لأمر هام.. ويقول إنه ذهب لمقابلة الأمير فأعطاه برقية من الملك عبد العزيز - رحمه الله - يطلب فيها منه التوجه للرياض ومن ثم الظهران للالتحاق بالدراسة في الولاياتالمتحدةالأمريكية، ويقول حاولت أن أخفي ذلك عن أمي لأنني ذاهب لعالم مجهول بالنسبة لها وللكثير من أهل الديرة ، لكن الفراق سيفضحني.. وقد ذهبت من عنيزة للرياض ووصلت البطحاء في الرياض بأجرة قدرها ريال واحد، وبعد وصولي للبطحاء لم أجد من يوصلني للمطار فاضطررت لاستئجار شاحنة «حمالية» بريال آخر.. وكان المطار عبارة عن أرض فضاء محاطة ب»شبك» وقد بقينا فيه أكثر من ساعتين لأنه قيل لنا انهم ينتظرون «خطا» أي رسالة سيرسلها الملك عبد العزيز لأمريكا !. ومن الرياض إلى الظهران حيث تم تزويدهم بملابس مناسبة ثم الكويت ثم عدة محطات وانتظار فيها حتى الوصول لأمريكا.. ويقول إن الرحلة استغرقت بين طيران وانتظار أسبوعا كاملا. وبعد الوصول لأمريكا وجد عالما مختلفا تماما عن عالمه الصغير في عنيزة وحصل له نوع مما يسمى «الصدمة الحضارية»، ويقول عندما رجع للسعودية وعاش في الظهران سكن في مساكن أرامكو التي كانت عالما منفصلا ومختلفا تماما عن المحيط حوله، ولذا عندما زاره ابن أخته سليمان العبد الرحمن - حفظه الله - في الظهران وكان صغيرا مرافقا ل «أم حمد»، يقول: جلست فترة أتأمل خالي لأنني لم أفهم ما قالته له أمي إن خالي سيرجع من أمريكا وهو يتكلم «بسبعة ألسن»، وقد جلست أياما لاستوعب التقنية الموجودة في بيت خالي وفي نادي الشركة من أجهزة كهربائية وأنواع مأكولات وغيرها، مما لم أره أبدا ولم أحلم بأن أراه في عنيزة. ولسليمان قصص في ذلك تثير الضحك من تعجبه مما رأى في «كامب» الشركة آنذاك. لقد خلف وراءه - رحمه الله - ذكرى عطرة لدى الكثير ممن التقاه، وانطبق عليه قول الشاعر شوقي رحمه الله: واحفظ لنفسك بعد موتك ذكرها فالذكر للإنسان عمر ثان رحمك الله يا أبا هاني وجعل مستقرك في الفردوس الأعلى من الجنة.