كانت كلمة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز حفظه الله (1 /8 /2014)؛ نصيحة تحذيراً، وصيحة نذير، لقادة الأمة الإسلامية وعلمائها، من زعيمٍ كبيرٍ مُشفِقٍ عليهم، مخلصٍ في نصيحتهم، مريدٍ للخير لهم، من مسلمٍ مدركٍ أَنْ ثمةَ مشروعًا عالميًّا من كيد الأعداء لضرب دول الإسلام وتمزيقها وتسليمها إلى مجموعات إرهابية تعيث في الأرض فسادًا، وتدمِّرُ بِنية مجتمعاتها؛ لتنشأ أجيالٌ محرومةٌ من الأمن والاستقرار والتعليم والرعاية، قد أَرهقتْ نفسيَّتَها أوزارُ الحروب ومشاهد الدِّماء والعنف والخراب، فيسهل بذلك توظيفها لمراحل أخرى من الضياع. إنَّ اليقينَ بوجود هذا المخطط الشيطانيِّ لا يحتاج إلى تلك الوثائق والتقارير والتحليلات التي يتداولها المهتمُّون، ويؤكِّدون من خلالها أنَّ ضرب الدول المسلمة بالإرهاب أمرٌ دُبِّرَ بليلٍ؛ فقد أصبح هذا المخططُ واقعًا ملموسًا بعد أن شرعوا في تنفيذه منذ قيام الثورات البائسة في عدد من الدول العربية، حيث هيَّأت الجوَّ المناسبَ لنموِّ الإرهاب وتطوُّره واتِّساع رقعته، ولا أدلَّ على ذلك من أنّ القوى الغربية أخذت قرارًا بضرب كتائب القذافيِّ خلال أيام، وامتنعت عن اتخاذ قرارٍ ضدَّ قوات الأسد حتى الآن، وعندما استعمل النظام السوريُّ السلاح الكيمياوي عاملته تلك الدول بسياسةٍ مَرِنةٍ، وأوعزت قبل ذلك لدول مجاورة بفتح الحدود على سوريا على مصراعيها ليسهل انتقال الشباب المسلم من أنحاء العالم خاصَّةً من الدول الأوروبية إلى سوريا والعراق للانخراط في القتال، وذلَّلتْ لهم طريق السفر تذليلاً؛ فيكفي أن ينزل الشاب في المطار ليستقبله أحد تجار الحروب، ويأخذ بيده جهارًا نهارًا حتى يعبر به الحدود إلى الداخل السوريِّ. وبعد سنوات من هذا التسهيل الذي لا تنقصه إلا تذكرة السفر مجانًا؛ بدأت تلك الدول تُبدي قلقها من تزايد أعداد الملتحقين بمواقع القتال، وأعلنت بعضها أنّ أولئك الشباب سيُعرَّضون للمساءلة والعقوبة حال عودتهم، ممَّا سيدفعهم إلى التمادي في طريق العنف والإرهاب بعد يأسهم من إمكانية عودتهم إلى حياتهم الأولى. إذن نحن أمام مشروع واضح المعالم، تمَّ تنفيذ مراحله الأولى، ونسأل الله العليّ العظيم أن يبطل كيد الأعداء، ويردَّه في نحورهم؛ فلا يجعل لهم على أهل الإسلام والسنّة سبيلاً. إنَّ الواجب على أهل العلم وطلابه، والمتصدِّرين للدعوة، وأصحاب الفكر والرأي, أَنْ يصيحوا على أبناء الأمة من أقطارها؛ تحذيرًا من هذا الخطر القائم والدَّاهم، ويؤدوا الأمانة التي سيسألهم الله تعالى عنها بالقيام بواجب النصيحة لدينهم وأوطانهم وأمتهم، والسعي لدفع الشرور والآفات عنها؛ لا تشجيعها واستجلابها. إنَّ من المؤسف حقًّا أنَّ طائفةً كبيرةً من أصحاب المنابر الدعوية والإعلامية ليسوا على استعداد لتحمُّل الأمانة، وأداء النصيحة، فقد استحكمتْ في الإسلاميين الحركيين الحزبيةُ البغيضةُ، فصاروا يرجِّحون مصالح «التنظيم والحزب» على مصالح أوطانهم وأمَّتهم، لهذا انغمسوا في الصِّراع على الدنيا، والمغالبة على السلطة، وظنُّوا لانحرافهم في تفسير الإسلام أنَّ ذلك هو الغاية التي خلقهم الله تعالى من أجلها، فانفصلوا شعوريًّا وسلوكيًّا عن كيان أوطانهم، وجسد أُمتهم، تنفيذًا لوصية سيِّدهم وقُطبهم عندما قال: «إنَّه لا نجاةَ للعصبة المسلمة في كلِّ أرضٍ من أن يقع عليها هذا العذابُ؛ إلا بأن تنفصل هذه العصبة عقيديًّا وشعوريًّا ومنهجَ حياةٍ عن أهل الجاهلية من قومها، حتى يأذن الله لها بقيام «دار إسلام» تعتصم بها، وإلا أن تشعر شعورًا كاملاً بأنها هي «الأمة المسلمة»، وأن ما حولها ومن حولها، ممن لم يدخلوا فيما دخلت فيه: جاهليةٌ، وأهل جاهلية» (في ظلال القرآن، سورة الأنعام: 65). هذا الانفصال الشعوريُّ هو الذي يحمل الحركيين اليوم على المطالبة بحقوق «الجماعة» وإن كان في ذلك حرق البلد كله، وهو الذي يحملهم في دول الخليج على التجاهل التامِّ للمخاطر المحدقة بدولهم، والتمادي في التحريض والتهييج وتوظيف الحوادث والنوازل لضرب أوطانهم في أَمْنها واستقرارها، حتى فيما كان منها قدرًا محضًا كالأمطار والسيول! إنَّ هذا «الفكر الانفصالي» عن الوطن والأمة لا بدَّ أن يواجه ويقاوم بترسيخ مفهوم الانتماء إلى الوطن المسلم والأمة المسلمة، مقابل مفهوم الانتماء إلى الحزب والتنظيم والحركة، ولا بدَّ من بناء عقليَّة ونفسيَّة ثابتة في الانتماء، صادقة فيه؛ تضع تحقيقَ المصالح العليا للمسلمين ودفع المفاسد والأضرار عنهم فوقَ كلِّ اعتبار. ومن هنا: فإنَّ كلمة خادم الحرمين الشريفين وفَّقه الله كانت رسالةً عامَّةً للأمة كلِّها بالمفهوم الجمعيِّ للأمة ، ولا شكَّ أنَّ هذا المفهوم هو الذي يوجِّهُ سياسته الحكيمة تجاه القضايا والنوازل، وأوضح مثال على ذلك: موقفه الداعم لأمن واستقرار مصر بغضِّ النظر عن شخص الحاكم وانتمائه، ومرتبته في ميزان الحسنات والسيِّئات، فقد استمرَّ دعم المملكة العربية السعودية لجمهورية مصر العربية في عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك، وكانت المملكة أول الداعمين معنويًّا وماديًّا للرئيس السابق محمد مرسي، وكذلك أول الداعمين للرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي، ذلك لأنّ المقصود هو الحفاظ على كيانٍ مهمٍّ من كيانات الأمة، وصيانته بعون الله من التمزُّق والانهيار، وحمايته من الإرهاب والدمار، وليس الانتصار لطرف ضدَّ آخر من أطراف الخلاف في الوطن الواحد. إنَّ هذا المفهوم الإسلامي الأصيل في الانتماء للأمة بالمفهوم الجمعي للأمة لا يُدركه ولا يستوعبه من كان قلبه أسيرًا بقيد الحزبية، ونظره قاصرًا على مصلحة الحزب والجماعة، خلافًا لمن تجرَّد من الأغراض والأهداف الشخصية والحزبية، ووقَّف حياته على العمل لما فيه الخير العامُّ للإسلام والمسلمين، ولقد كان الإمام المجدِّدُ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يعمل - ضمن مشروعه الإصلاحي الشامل - على ترسيخ هذا المفهوم تأصيلاً وتطبيقًا في جميع مراحل جهاده العلميِّ والعمليِّ العظيم، على هدًى من قوله تعالى: وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ [المؤمنون: 52]، وقوله سبحانه: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الحجرات: 10]، ومن أمر النبيِّ صلى الله عليه وسلم - في أحاديثه الكثيرة المتواترة - بالاجتماع وحفظ حقوق الأخوَّة الإسلامية، وتعظيم دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم؛ فلا عجب أنْ تُبرِزَ الدولةُ السعودية العمل بهذا المفهوم في مواقفها من القضايا الإسلامية، وبالله تعالى التوفيق.