عقد الأسبوع الماضي في جدة اجتماع وزراء خارجية عشر دول عربية تشمل كل دول مجلس التعاون الخليجي والأردن ومصر والعراق واليمن, بالإضافة لحضور وزير خارجية الولاياتالمتحدة وتركيا. وانتهى مؤكدا الاتفاق على البدء في وضع إستراتيجية لمكافحة الإرهاب؛ سرطان المرحلة الذي ابتليت به منطقتنا ويهدد بالانتشار لغيرنا. وسيكون من ضمنها تدريب القوات على مواجهة الإرهابيين فهؤلاء لا يلتزمون بالقوانين الدولية في أوضاع الحروب ولابد من حماية المدنيين من جرائمهم والدفاع عن استتباب الأمن. واليوم 16 سبتمبر, يعقد معهد الدراسات الدبلوماسية التابع لوزارة الخارجية بالتعاون مع مركز الخليج للأبحاث مؤتمر «الخليج العربي والتحديات الإقليمية» تحت رعاية صاحب السمو الملكي وزير الخارجية الأمير سعود الفيصل. المشاركون فيه على مستوى رفيع في هرم صنع قرار الأمن في الوطن العربي. وفي نوفمبر سيعقد مركز التخطيط الإستراتيجي في البحرين مؤتمرا عن أمن الخليج والتحرك من الخطة الوطنية إلى الخطط الإقليمية. ويتضح للمتابع لما تلى مباشرة ثورات الربيع العربي أن التيارات السياسية المتأسلمة المحظورة تحركت من تخفيها منتقلة تحت مظلة دينية تضمن لها احترام وتصديق أفراد المجتمع ليقدموا لها العضوية والدعم المادي. واتضح أيضا أن خلخلة أوضاع الأمن في منطقة الخليج العربي مطلب أساسي لها بينما الأمن ضروري لاستقرار المنطقة العربية أمنيا واجتماعيا واقتصاديا وسياسيا. في الحقيقة كل ما يجري هو استمرار للبحث عن هوية مجتمعية وكونية! قضية الأمن العربي والخليجي لم تبدأ بالقاعدة وتفجيرات نيويورك 2001 ولا بالربيع العربي 2011 ولم تنته بتهديدات داعش 2014. في الخمسينات عربيا والستينات خليجيا كانت ثورات التحرر من الاستعمار. وفي السبعينات تصاعد جدل شعارات اليمين واليسار. وفي الثمانينات احتدمت حرب الخليج الأولى في الهامش وفي المتن معارك الحداثة والأصالة والتشكيك بالانتماء. وفي التسعينيات أغرقنا بمعارك الحلال والتحريم والفضيلة والأوزار. وفي العقد الأول من القرن الحالي جاءت شطحات القاعدة وكذلك مواجهة الفرد خيارات الكر أو الفرار دفاعا عن النفس ضد تهم التكفير والإقصاء والإرهاب! وفي العقد الثاني فاجأتنا سلسلة من عواصف شغب وعنف ما سمي ب»الربيع» العربي منطلقة من مبدأ الفوضى الخلاقة, التي ابتدأت بمطالب سلمية وانتهت باختطافها من قبل التيارات والأحزاب السياسية المترصدة كالضباع سقوط الأنظمة الرسمية لتنقض على موقع السلطة. وما زال السعي له سمة الفعل, والتبرير بالماضي سمة الفكر, والبحث عن هوية انشغالا لا واعيا. وستظل «الهوية» قضية القضايا لعقود قادمة حتى لو قضت القوة التحالفية على داعش, ما لم نصل إلى هوية واضحة نعيشها وانتماؤنا للحاضر الطبيعي. على هذا ؛ قضايانا المهمة, وإن كانت كلها ترتبط بالأمن الاجتماعي والفكري, لم تكن كلها سياسية كما يظن البعض, أو مذهبية كما يرى البعض الآخر. صحيح هناك مسألة مصداقية الفتاوى, والتأجيج الطائفي, والعلاقات العولمية والعالمية والقومية والإقليمية.. ولكن تأتي النتائج أولا محلية خالصة. هي خليط من كل هذه الروافد تصب في تكوين معرفة الفرد وعلمه ورأيه وبالتالي خياراته لانتمائه الفكري قبل أي انتماء آخر. بل ربما كانت كلها جدلاً تلقائياً عفوياً, أو حتى مطبوخاً, حول هويتنا وطنية أو مذهبية. وفي غياب الوعي بالتصرف الحضاري السليم تتصاعد القضية من البحث عن هوية إلى دفاع عن التفضيلات الفئوية لها كما تحددها فتاوى فردية.. وبالتالي تتحول إلى تحديات استقرار الأمن ومع تصاعد التطرف تقود إلى الدموية. الشعور بالأمان هو نقطة الارتكاز عند القضية الأقدم والأهم من كل القضايا: قضية الأمن؛ أمن الإنسان وأمن الوطن كوحدة سياسية قائمة. وبلا شك أسرع وأنجح وسيلة لزعزعة الأمن الفردي والمجموع هي العبث بالأمن الفكري الذي يسهل اهتراء الشعور بالانتماء وترسيخ شرعنة الإقصائية والدموية حيث تصبح الهوية المعتمدة هي الانتماء لفكر فئة وليس الانتماء لوطن. برأيي أن الأمن الوطني والإقليمي يبنى على توطيد الشعور بالانتماء في الأفراد.. وهو شعور دعامته قدرة اتضاح الرؤية متأسسة أولا في نظام عدل يقوم بخدمة الجميع ويقدم العدالة للكل بصدق, وقانون يحاسب ويعاقب المعتدين, ونظام تعليم محدث باستمرار يشجع التفكير المنطقي والإضافة الفردية خارج محتوى الموروث التراكمي؛ وتوطيد التمسك بمبدأ التعاون الاقتصادي الإقليمي.. ثم في بناء الدرع الإعلامي لترسيخ الهوية بصورة فعالة. هنا أشير إلى مراجعة سجل هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي حرف عن مبرره الأصلي في شعيرة دينية جوهرية سلمية مهمتها واضحة من تعريف الهيئة, وتشوه إلى ترهيب واضح. وممارسة تجاوزات للقانون ضد حقوق المواطن والمقيم تهدد أمن المجتمع. تقاريرها الرسمية مسخرة للاستمرار في التصاعد لخدمة ذاتها وليس بناء الهوية المجتمعية. وهذا يهدد أمن المجتمع وتماسكه. فهل سيفتح الملف القديم الذي لم ينسه المجتمع وضحايا الهيئة ويحقق في قضايا الناس؟ ذلك سيثبت فعليا أن أمن الوطن لا يسمح بتقبل ممارسة أي نوع من الإرهاب الفكري من أي مصدر داخل الحدود أو خارجها.