قبل عشرين سنة تماماً، أي في عام 1414ه، صدر كتاب رحلة في بلاد العرب الحملة المصرية على عسير 1249-1834م لمؤلِّفه الرحّالة موريس تاميزييه، والذي قمت بترجمته والتعليق عليه، وكان يمثل الجزء الثاني من عمل هذا الرحّالة الشاب، ألحقته فيما بعد وبالتحديد في عام 1421ه، بالجزء الأول المتعلّق بسرد رحلته منذ بدايتها من القاهرة عبر الصحراء الفاصلة بينها وبين البحر الأحمر الذي عبره في طريقه إلى جدة، ماراً بكثير من محطات توقّف خلالها في عدد من موانئ البحر الأحمر على ضفته الشرقية، ثم ما كتبه مفصلاً عن مدينة جدة التي مكث بها وقتاً كافياً قبل توجهه إلى الطائف، ثم مباشرة رحلته مرافقاً لواحدة من أكبر حملات محمد علي باشا العسكرية ضد عسير. قد يسأل سائل - ومن حقه أن يسأل - لماذا صدر الجزء الثاني قبل الأول؟ الجواب الجزء الثاني كان شديد الالتصاق بما كنت أعدّه من أجل رسالتي للماجستير في تاريخ عسير الحديث، إذ كان اكتشافي لهذا الكتاب المهم الذي ظل مجهولاً لدى المؤرّخين ممن تناولوا تاريخ الجزيرة العربية الحديث. ومما نأتي في البحث عنه والذي تحدثت عن ذلك مفصلاً في مقدمة الترجمة، فلقد كان لاكتشاف هذا الكتاب الذي ظل - كما أسلفت - مجهولاً لمؤلِّف أو رحّالة ظل مغموراً حتى فيما كتبه عنه أبناء جلدته الفرنسيين؛ وما زلنا حتى الآن نجهل كثيراً إنْ لم يكن الكل، عن حياة هذا الشاب الذي لم يتجاوز عمره أثناء قيامه بهذه الرحلة الشاقة في جزيرة العرب اثنين وعشرين عاماً. وسنبقي مدينين له على ما قدمه لنا من معلومات تاريخية لم تجد بها مصادرنا المحلية، ولم تزوّدنا بها المصار العثمانية والمصرية المنحازة أو المدوّنة لتاريخ الوقائع التي شهدتها بلادنا خلال هذه الفترة من وجهة نظر واحدة هي جهة النظر الرسمية، المصرية - العثمانية. من أجل هذا أهتممت بهذا الكتاب اهتماماً بالغاً وشغفت به، وبما ورد فيه من رصد للأحداث التي كان شاهد عيان لها ومشاركاً فيها. وتعود بداية علاقتي بهذا الكتاب إلى عام 1974سنة ابتعاثي إلى جامعة كانساس بالولايات المتحدةالأمريكية للتحضير لدرجة الماجستير. إذاً ففي العام 2014م يمضي على بداية علاقتي بهذا الكتاب أربعون عاماً، وعشرون عاماً منذ الانتهاء من ترجمته وطباعته. إنّ عملاً له هذه المكانة في نفسي يستحق كل هذا الاهتمام، وحقيقة فإنني لم أفرح بصدور أي من كتبي التي تزيد الآن على أربعين كتاباً مثل ما فرحت وسررت، وغمرتني السعادة بمثل فرحتي عند صدور هذا الكتاب. ولقد كنت سعيداً أن شاطرني كثيرون من زملائي الأكاديميين وإخواني المثقفين والصحفيين الاحتفال بصدوره في حفلة رائعة أقيمت بهذه المناسبة في مدينة الرياض. ولقد حظي هذا الكتاب باهتمام بالغ من قِبل الجميع، وعلى رأسهم خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز الذي اقتبس منه ومن مقدمته عبارات وفقرات مطوّلة بعث بها في خطاب إلى الشاعر والأديب العسيري علي آل عمر، استشهد بتلك العبارات ببطولة أبناء منطقة عسير في مواجهة جحافل محمد علي باشا واستماتتهم في الدفاع عن أرضهم، والدفاع عن الجزيرة العربية بعد سقوط الدرعية على أيدي جحافل إبراهيم باشا. وممن استشهدوا ببعض ما ورد في هذا الكتاب شيخ المؤرِّخين، وعميد الأدباء السعوديين الشيخ عبد العزيز التويجري - رحمه الله - الذي كتب لي رسالة يشيد فيها بما تضمّنه هذا الكتاب من مواقف بطولية لأبناء منطقة عسير، وأوصى في نهاية خطابه الرائع بضرورة وجود هذا الكتاب في كل بيت عسيري، بل في كل بيت من بيوت أبناء هذه البلاد لمعرفة جسامة التضحيات التي قدمها أبناء هذا الوطن من أجل هذا الوطن؛ وكان محط عناية الباحثين والدارسين. كما احتفل به كثيرون من أبناء الأُسر الذين وردت أسماء من كان من أجدادهم شركاء في أحداث تلك المرحلة، أو من ورد ذكر لمدنهم أو قبائلهم ذكر فيه. وقد أصبح هذا الكتاب مرجعاً لكثير من المؤلِّفين والدارسين، لدرجة أنّ بعضاً من هؤلاء أخذ أجزاء كاملة منه وضمنها ما قام بتأليفه، ما تجاوز المسموح به في العرف الأكاديمي؛ ومع ذلك كنت سعيداً بكل من شاركني السعادة بسبب توفر هذا الكتاب في متناول الجميع. وقبل قيامي بنشر هذا الكتاب قمت بنشر ما ورد في بعض فصوله في مجلة الحرس الوطني في عام 1405ه، متزامناً مع زيارة سمو الأمير عبد الله بن عبد العزيز ولي العهد حينذاك ورئيس الحرس الوطني إلى مدينة بيشة لحضور التمرين التعبوي «عرين» يحكى عن مقاومة أهل بيشة البطولي لكثير من الحملات العسكرية التي شنت على مدينتهم وقراهم من قِبل الحملات العسكرية المتعدّدة التي شنّتها القوات المصرية - العثمانية على بيشة، كونها البوابة الشمالية الشرقية لمنطقة عسير. وقد دوّن الرحّالة موريس تاميزييه وقائع ما كان مشاركاً فيه من حملة كان هو أحد رجالها، وما قصّه من وقائع سبق أن تعرّضت لها هذه المدينة الباسلة؛ قصّها عليه تفصيلاً أحد أبطال المقاومة الشيخ علي الصعيري، وهو أحد زعماء بيشة البارزين، وسيد بني سلول إحدى القبائل المشهورة في بيشة. وبني سلول ومعها بعض قبائل بيشة شكّلوا تجمعاً متحالفاً يسمّى المحلف، وأقاموا لهم قلعة تسمّى قلعة المحلف، وهي القلعة التي دارت فيها الأحداث التي تحدث عنها علي الصعيري في مقابلته مع الرحّالة تاميزييه. وشكّلت قلعة محلف الخط الثاني بعد قلعة الرقيطاء التي كان بطل المقاومة فيها الشيخ ابن شكبان شيخ شمل قبائل أكبر، وأقوى الشخصيات القيادية التي حالفت الدولة السعودية الأولى. وكان القادة من آل شكبان على ولاء مطلق لزعماء الدولة السعودية الأولى منذ أول أمير مؤسس، محمد بن سعود، ثم من خلفه من الأئمة الأمراء عبد العزيز بن محمد، وابنه سعود بن عبد العزيز الملقّب بالكبير، ثم آخر أئمة الدولة السعودية الأولى عبد الله بن سعود. قدمت أُسرة آل شكبان الكثير من أبنائها ضحايا في الدفاع عن الدولة السعودية والدعوة الإصلاحية، وكانت قلعتهم الرقيطاء - والتي لاتزال آثارها بارزة للعيان إلى الآن - تمثل قلعة الصمود الأولى لمواجهة الحملات العسكرية، ودمّر الغزاة بمدافعهم معظم أجزاء تلك القلعة بعد تضحيات جسام ذهب ضحيتها المئات من المقاتلين، بمن فيهم بعض الزعماء من آل شكبان أنفسهم، ولكن لما لم تتوقف مقاومة أهل بيشة، فإنّ القوات الغازية قامت بتدمير قلعة الرقيطاء وقتل من قتل من المقاومين فيها وتشتت من ظل حياً، وحينها جاء دور قلعة المحلف، وهي من أكبر قلاع بيشة بعد قلعة الرقيطاء لتكمل الدور التاريخي الخالد، وتقع هذه القلعة في قلب بلاد بني سلول، وهي مركز بيشة الحضري وسوقها الشهير. وقد أزيلت في فترة متأخرة وحلّت محلها قلعة بيشة التي أصبحت مقراً لإمارة بيشة منذ بداية عهد حكم الملك عبد العزيز، ثم أزيلت هي الأخرى، حتى مع أهميتها التاريخية، وبني علي أنقاضها مبنى إمارة بيشة الحديث والذي أعتقد أنه بدوره سيُزال، ويحل محله مبنى أحدث منه. أؤكد فيما أورده عن هذه الأحداث وعن هذه الأماكن التاريخية، خاصة قلعتي الرقيطاء والمحلف بأنّ قلعة الرقيطاء هي معقل أُسرة آل شكبان محاطة بمزارعهم وأملاكهم إلى يومنا هذا. بينما قلعة محلف، وهي تحمل هذا الاسم الرائع الذي يعبّر عن تحالف كثير من قبائل بيشة، وفيها تجسّدت قوة مقاومتهم للحملة التي تحدث عنها الشيخ علي الصعيري إلى الرحّالة موريس تاميزييه ومسرح لذلك الحدث البطولي الذي كان الشيخ علي الصعيري أبرز رموزه. أهمية الحفاظ على القلاع التاريخية وبمناسبة الحديث عن هاتين القلعتين التاريخيتين قلعة الرقيطاء لابن شكبان وقلعة المحلف الكائنة في الروشن ديرة بني سلول وحلفائهم، حيث تمّت إزالة قلعة محلف نهائياً، وبقيت أطلال قلعة الرقيطاء قلعة ابن شكبان كم تألمت لإزالة ما أزيل نهائياً، ولإهمال تلك التي وما زالت أطلالها ماثلة للعيان. لماذا لم يتم الحفاظ عليهما، لماذا لا ترمّم قلعة الرقيطاء كونها رمزاً تاريخياً يجب الحفاظ عليه، ومع الأسف لقد أزيلت قلاع كثيرة في أكثر من مدينة ومنطقة وموقع ممتدة على امتداد جغرافيا بلادنا، كل منها يحمل ذكرى لتاريخ يجب تذكره، والحفاظ على ما يذكِّرنا به. بعد عودتي من البعثة في عام 1408ه، تقدمت بمشروع من خلال قسم التاريخ بجامعة الملك سعود أطلب فيه وضع خطة علمية تهدف إلى وضع مسح شامل للقلاع التاريخية، ومن ثم وضع خطة متكاملة لترميمها. قدمت الخطة إلى ما كان يسمّى مركز البحوث بكلية الآداب، ولكن كان المركز لا يملك المال الكافي, وكانت الفكرة - على ما أعتقد - غير جاذبة بسبب عدم الاهتمام بمثل هذه القضايا، فقد كان الاهتمام حينذاك، أكثر تركيزاً على الآثار المدفونة تحت الأرض، ومع أهمية الآثار والتركيز عليها، فإن وجودها تحت الأرض هو أكثر أماناً من تلك الآثار الكائنة فوق الأرض التي تتعرّض كل يوم، بل كل ساعة، للضياع والعبث؛ وهذا ما حدث. فكم من قلاع اختفت، وكم من أسوار مدن قديمة دكّت، وكم من معالم أسواق تعرّضت للتعدي عليها من قِبل أفراد، أو من قِبل من لا تعني له الآثار في سبيل إقامة مخطط سكني، أو توسيع شارع، أو غير ذلك. حتى مدينة الدرعية عاصمة الدولة العربية الموحّدة الكبرى أي الجزيرة العربية التي لم تتوحّد منذ عهد الخلافة الراشدة إلا مع قيام الدولة السعودية وعاصمتها الدرعية، كانت إلى ذلك التاريخ أي عام 1408ه وحتى إلى ما بعد هذا التاريخ بسنوات، شبه مهملة، عدا بعض المحاولات المتواضعة وغير العلمية والمنتظمة. وأذكر أنّ في السنة الأولى التي قمت فيها بتدريس مادة تاريخ المملكة؛ وبما أنّ الدرس الأول كان عن قيام عاصمة الدولة، فإنني لكي أقرب الصورة إلى أبنائي الطلبة، قررت أن أنقلهم إلى الدرعية لقربها من جامعة الملك سعود وليكن الدرس عنها من داخلها، ومن مكان صناعة أحداث قيام تلك الدولة العظيمة. كانت هذه الرغبة مكان استغراب من القسم، ومن الجامعة حينما طلبت حافلة تنقلني مع طلابي إلى هناك، لم تكن الموافقة على تأمين الحافلة هي الأمر المستغرب فحسب، بل إنّ الفكرة كلها كانت مكان استغراب؛ ولكنني تمكنت أخيراً من الذهاب بصحبة أبنائي الطلبة، وكان يوماً ممتعاً لا ينسى. وكتبت حينذاك مقالة وردوداً على تلك المقالة عن الإهمال الذي كانت عليه معالم الدرعية القديمة؛ والحمد لله إنها الآن تحظى باهتمام يليق بها. ولا يسعني في هذا المقام إلاّ أن أكرر دعوتي بهذه المناسبة إلى وضع أطلس لكل القلاع المقامة على أرض بلادنا وعبر كل عصورها التاريخية، ومن ثم ترميم ما بقي منها وإعادة الحياة إليها.