إن نحن ضربنا صفحاً عن جملة من الدوافع القوية التي ساعدت على تخليق جماعات العنف والإرهاب، ومنحتها مسوغات متوهمة لجز الرؤوس وبقر البطون واستخراج الأحشاء وتعليق الجثث والتمثيل بها والإعدام براجمات الآر بي جي، واختطاف النساء واقتيادهن سبايا، و ذبح كل من ليس على طريقتهم ومنهجهم ذبحا؛ لا من غير المسلمين فحسب؛ بل حتى ممن ينتمون إلى فكر متطرف دموي كما هم؛ لئن لم ننظر إلى مسببات كثيرة قد تدفع إلى نشوء ردات فعل متطرفة على أوضاع معيشية صعبة كالفقر أو ضعف التنمية أوغياب العدالة أو تسلط الأنظمة العسكرية أو شيوع الفساد والمحسوبية والرشوة وغيرها؛ فإن ذلك لا يمكن أن يغفل عنه باحث منصف حصيف؛ بيد أن جماعة إرهابية مثل «بوكو حرام» ليست وليدة اليوم ولا الأمس القريب! ثمة سمات مشابهة تسربلت بها جماعات أخرى نشأت هنا وهناك في عالمنا العربي والإسلامي تلتقي في موقف رفض الحضارة الغربية وتختلف في تفاصيل التعبير عن ذلك الرفض؛ فقد لا تصل إلى ما وصلت إليه جماعة «بوكو حرام» في البشاعة والإجرام؛ لكنها تتخذ أساليب متعددة لتأليب الرأي العام ضد كل ما هو غربي؛ إن كتابة أو وعظا أو تحشيداً جماهيرياً، وقد تشعر بيأس من مواجهة الواقع المندفع المرحب بجديد هذه الحضارة وتخشى على نفسها من الذوبان والفناء فتلتف وتعتصم بالعصبة التي آمنت برفض كل ما هو جديد من هذه الحضارة «الشيطانية» وتكون لها مجتمعا صغيرا يتعايش أفراده باتساق مع قيم وتقاليد لم تتلوث برذائل حضارة الغرب؛ فترفض التعليم الحديث ووسائل الإعلام والمعاملات المالية البنكية وتشيح بوجهها عن مستجدات العصر تشبثا بماض غارب تخشى عليه من الفناء والزوال! لقد واجه الغرب نفسه من داخله رفض حضارته من بعض مجتمعاته؛ فاعتزلت جماعة «الآميش» المجتمع الأوربي والأمريكي وخلقت لها كانتونات خاصة بها، وسنت لأنفسها قوانين تنظم ذلك المجتمع الصغير المنطوي على نفسه الرافض حضارة العصر الغربية المغيبة للماضي بكل ما كان يحمله من قيم وعادات وتقاليد؛ فلا غرو إذاً أن تنشأ في مجتمعاتنا العربية والإسلامية جماعات أو أفراد ترفض طغيان الغرب واستبداد حضارته؛ لكن ما لا يمكن أن يقبله الضمير الحي ولا العقل اليقظ ولا المنطق السليم ولا الدين الحق نفسه أن يتخذ هذا الرفض منحى إرهابياً دموياً يقترف القتل باسم الدين ويمارس الرذائل باسم الحفاظ على القيم الأخلاقية ويرفض الآخر المختلف أيا كان وجوه الاختلاف معه بتصفيته وإعلان الحرب عليه! أنتجت جماعة «بوكو حرام» آخر نسخة بشعة يمكن أن يتخذها أعداء الإسلام لتشويه الإسلام نفسه والافتراء عليه؛ فقد قلبت جماعة الدم الجاهلة هذه قيم الإنسانية والرحمة والتسامح والمحبة وحرية الاعتقاد والعمل والإبداع التي يدعو إليها الإسلام إلى مفهومات شوفينية ذاتية لا صلة لها بقيم الإسلام وأخلاقياته؛ فاستباحوا الدماء باسم الجهاد، وسبوا النساء باسم غنائم الحرب، وروعوا الآمنين باسم إقامة دولة الإسلام؛ تماما كما يقترف أدعياء هذا الفكر الإرهابي من جرائم مروعة في كل مكان تنغرس فيه حرابهم أو تطأه أقدامهم؛ كالشام واليمن وغيرهما. تتكون هذه الجماعات بسبب تمكن عقدة «الغالب والمغلوب» والشعور بالهوان أمام الحضارة الغربية المستبدة الغالبة؛ فنشأ فكر القاعدة إثر أزمات صعدت المواجهة مع الحضارة الغربية التي تتقاسم حكم العالم مع المعسكر الشرقي؛ فتخرج كل بقعة مأزومة ردة فعلها في هيئة تنظيم انتقامي يتوسل بالخطاب الديني لتكوين الأتباع ومنحهم قوة الشحن والإيمان بنتائج التضحية؛ كما كانت الحال لدينا إبان أزمة الإرهاب، وكما هو الحال الآن في العراق وسوريا واليمن ونيجيريا وغيرها! وأخيراً: ماذا أنتجت جماعة «بوكو حرام» من إضافة إبداعية للعالم سوى الدم؟! إنها تختصر الصراع بين حضارة غالبة وشعوب تائهة مسودة مغلوبة!