بصفة عامة وفي المملكة بصفة خاصة، هناك من يراها قاصرة في تحقيق أهدافها، وهناك من يطالب بإلغائها وتقليصها أو العكس. والنقاش هنا أمر طبيعي وصحي، ولا ننكر أن اختلاف وجهات النظر في هذا الموضوع يأتي عطفاً على المبررات وعلى الرؤية التي يراها كل شخص لهذه التخصصات. هنا أطرح بعض الأفكار التي قد تسهم في هذا النقاش والبحث عن رؤية مستقبلية لتخصصات العلوم الإنسانية بالمملكة. عندما يكون هدف التعليم الجامعي هو حصول الخريج أو الخريجة على وظيفة مناسبة، فحتماً لدينا فائض من مخرجات كليات العلوم الإنسانية يقابله شح في الوظائف المخصصة لهم، مقارنة بالتخصصات الهندسية والطبية، على سبيل المثال. ووفق هذه المعادلة يكون التوجه هو المطالبة بتقليص وإقفال برامج العلوم الإنسانية في الجامعات وفي الابتعاث والتدريب. السؤال الذي يطرحه الفريق الآخر: هل الهدف الوحيد لتخصصات العلوم الإنسانية هو التوظيف؟ لا أريد الدخول في جدل هل التعليم الجامعي هدفه العلم ذاته أم التوظيف، فقد تجاوز الكثيرون هذا الجدل. التوظيف بالتأكيد هو هدف حيوي ومهم لأي تعليم جامعي، لكن مجال التوظيف ونوعيته لمخرجات العلوم الإنسانية يتغير على مستوى العالم، بحيث يتجاوز النظرة التقليدية للوظائف المتاحة لهم. على سبيل المثال لم يعد بالضرورة أن يعمل خريج علم النفس أو الاجتماع في تدريس تلك التخصصات أو يعمل في المستشفى أو غيره من الوظائف التقليدية لهم، بل أصبحوا يعملون في التسويق وفي الأعمال الإدارية العامة وفي خدمات العملاء وغيرها من المجالات التي تحتاج لخلفياتهم في فهم العملاء والمجتمع وغير ذلك. هذا يعني أن المهارات المطلوبة لهم ليست مهارات العلم ذاته وإنما مهارات أخرى - مهارات ناعمة- كمهارات الاتصال والتعامل مع الحاسب الآلي وإدارة المكاتب وغيرها. مثل هذا التوجه يفرض علينا تزويد خريجي العلوم الإنسانية بتلك المهارات التي تسمى مهارات ناعمة ليتاح لهم مجالات أوسع للعمل ولتبقى معلوماتهم المعرفية في تخصصات العلوم الإنسانية مساعدة لهم للتميز في الأعمال المختلفة. بمعنى آخر نحتاج توسيع مجال عمل خريجي العلوم الإنسانية وفي نفس الوقت نحتاج تعليمهم مهارات أساسية تتطلبها الأعمال وتتجاوز مجرد تعليمهم الجانب المعرفي لتخصصاتهم. المجال الآخر الذي نراه توجهاً عالمياً، -وللأسف لا يوجد في بلادنا-، يتمثل في اعتبار تخصصات العلوم الإنسانية تأسيساً لتخصصات تطبيقية أخرى، بمعنى آخر يتاح لخريج تخصص العلوم الإنسانية المجال لإكمال دراسته في مجال آخر. على سبيل المثال نجد خريج علم النفس يتاح له التخصص في بعض المجالات الصحية كالعلاج الوظيفي والصحة العامة والتعليم الطبي وغيرها، أو يتاح لخريج الاجتماع الالتحاق بكلية الشريعة أو القانون، وهكذا في بقية تخصصات العلوم الإنسانية. أعتقد أنه سيكون توسع أكبر عالمياً في هذا التوجه بحيث لا يتمكن الشخص من الالتحاق ببرنامج تطبيقي صحي أو قانوني أو تعليمي، ما لم يكن لديه درجة علمية سابقة في أحد تخصصات العلوم الإنسانية. بعض الدول لا يتخصص فيها المعلم في التدريس أو القانون ما لم يكن لديه درجة علمية سابقة في أحد العلوم الإنسانية أو العلوم حسب تخصصه. هناك سؤال آخر سأحاول الإجابة عنه في المقال القادم. ما هي التغييرات التي نحتاجها في مناهج العلوم الإنسانية لتحقيق الرؤى أعلاه؟