شجرةُ الحروف (1) «ما عادَ يعبأُ بالسنينْ.. فالشكلُ أبهَجَ أشرقَ المعنى وردّدَ منشدونَ لمنشدينْ. أنثى، وضحْكتُها الطفولةُ والمراجيحُ الحنينْ. مذْ أزهرتْ في الروح رائحةُ الزمانِ قصيدةٌ وعلى جدارِ القلبِ عرّشَ ياسمينْ.»* كثيراً ما يردد الكتّاب والمتحدثون أن الحديثَ ذو شجون، وأن الشيء بالشيء يُذكر، حتى كاد ذلك أن يكون علامةً وشعاراً لهم، وغالباً ما نكتشف، بعد رحلة شاقة، أن لا شجون، ولا علاقة أو تشابه يذكر في استطرادهم، أو فيما يؤثثه ويفرشه لنا بعضهم من كلام، نرجو ألا نكون من شملهم، فحديثنا اليوم عن حرفٍ فيه من الشذى ما فيه من الشجن، وفيه من الطاقة المتجددة الشاملة، والشحنات الموجبة، ما يجعله مشعلَ معرفةٍ، وشهاباً في سماء الحروف العربية المضيئة. فالشينُ شجرة، وهي شجرة الحروف، ونحن نعشقها كما نعشق الشعر والشجر بفطرتنا وبمعرفتنا، فهي تنشأ نشأته بين الحروف، وتتشابك تشابكه، وتشتجر اشتجاره، معروشة وغير معروشة، ومتشابهة وغير متشابهة في أوائل المفردات وأواخرها، ومشرقة بين الحروف، في انفرادها وتكرارها: {وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِن ثَمَرِه إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} الأنعام:141. لكنها لا تتشاجر كالبشر مما يفضي إلى المشاحنة، ولا تعبس ولا تكشر عن ناب الشّنا في وجوه الأهل، رغم كونها شقية مشاغبة مشاكسة تحب نشر شباكها، ونصب شراكها برموشها، وتحب اللعب والخربشة، لكن ذلك للتسلية البريئة فقط، ونحن نحبها، ونحب ذلك فيها، ولا ننسى شيئاً منها، فهي شهمة شريفة، تشهد كل الحروفِ على شموخها، وتثني على أخلاقها العالية، وتعاونها البنّاء في تشييد بيوت اللغة، ولها منها قصرها المشيد، ولها كما للجميعِ أسرارها، وقصصها الشائعة، وهم يذكرون في كتب السير أنّ كلمة شكراً لا تفارق لسانها، فهي حامدةٌ شاكرة، وهي رغم مهادنتها إلا أن منها الشوك، فهي ذات شوكة وبأس في الشدائد والملمات، وهي رغم شفافيتها وشوقها وتوقها الدافئ في الشعر، ولينها وعطائها وعطرها في الشجر، قد تحتد فتكون ذات مزاجٍ ومناخٍ قاريٍّ كشديد البرد في الشتاء، وشديد الحر في الصيف. والشين في الشعر، ومن الشعراء المعجبين بنسجها شاعر العربية وعكاظ، الأعشى صناجة العرب، فحبيبته في معلقته: غرَّاءُ فَرْعَاءُ مَصْقُولٌ عَوَارِضُهَا تَمشِي الهُوَينَا كَمَا يَمشِي الوَجي الوَحِلُ. كَأَنَّ مِشْيَتَهَا مِنْ بَيْتِ جَارَتِهَا مَرُّ السَّحَابَةِ، لاَ رَيْثٌ وَلاَ عَجَلُ. إِذَا تَقُومُ يَضُوعُ المِسْكُ أصْوِرَةً وَالزَّنْبَقُ الوَرْدُ مِنْ أَرْدَانِهَا شَمِلُ ما رَوْضَةٌ مِنْ رِياضِ الحَزْمِ مُعشبةٌ خَضرَاءُ جَادَ عَلَيهَا مُسْبِلٌ هَطِلُ يُضَاحكُ الشَّمسَ مِنهَا كَوكَبٌ شَرِقٌ مُؤزَّرٌ بِعَمِيمِ النَّبْتِ مُكْتَهِلُ يَوْماً بِأَطْيَبَ مِنْهَا نَشْرَ رَائِحَةٍ، وَلاَ بِأَحسَنَ مِنهَا إِذْ دَنَا الأُصُلُ ما أجمل نشر الرائحةِ هنا، والكوكب الشرِق الذي يضاحك الشمس. فقد جمعت هذه القصيدة لذة الشعر والشين معاً. أما عن تشرابه فيقول: وَقَدْ أَقُودُ الصِّبا يَوْماً فيَتْبَعُنِي وَقَدْ يُصَاحِبُنِي ذُو الشّرّةِ الغَزِلُ وَقَدْ غَدَوْتُ إلى الحَانُوتِ يَتْبَعُنِي شَاوٍ مِشَلٌّ شَلُولٌ شُلشُلٌ شَوِلُ *** * للشاعر صاحب المقال