النفس البشرية مجبولة على حب الأعمال الخيرية، وعلى استحسان الأفعال الصالحة، سواء كانت بين العبد وخالقه، أو كانت بين الخلق أنفسهم، وهذا ينعكس على حب الأشخاص الذين يعملون الخيرات، ويفعلون الصالحات، مما يبعث في النفس البشرية أن تمدح هذه الأعمال، وتثني على أصحابها. وهذا المدح الذي يكون بالحق، ويقصد به أولاً حث الشخص الممدوح على الازدياد في الأعمال، وبذل مزيد من الجهود المخلصة في خدمة دينه وأمته ووطنه، هذا النوع من المدح ليس فيه نوع من الحرج، ولا الإثم، وخاصة إذا كان السبب في تشجيع الآخرين، وحثهم على الاقتداء بالشخص الممدوح بالحق، وتكثير الفاعلين للخير، والعاملين في خدمة دينهم، وأمتهم. وأما الحديث الذي يقول فيه الرسول - صلى الله عليه وسلم - : «احثوا في وجوه المدّاحين التراب», فإنّ العلماء الراسخين - ومنهم الخطابي في شرح سنن أبي داود، بيّنوا المراد من الحديث، فقال الخطابي: «المدّاحون هم الذين اتخذوا مدح الناس عادة، وجعلوه بضاعة، يستأكلون به الممدوح ويفتتنوه، فأمّا مدح الرجل على الفعل الحسن، والأمر المحمود يكون منه ترغيباً له في أمثاله، وتحريضاً للناس على الاقتداء به في أشباهه، فليس بمداح، وإن كان قد صار مادحاً بما تكلم به من جميل القول فيه». ولا شك أنّ الذين يكذبون في مدحهم، ويبالغون فيه، بل ويضفون على الممدوح صفات ليست فيه، وينسبون إليه أعمالاً لم يفعلها، هم ممن ينبغي حث التراب في وجوههم، وبيان كذبهم، وزيفهم، وضررهم على المجتمع. كما أنّ الممدوح الذي يرضى أن يُمدح بما ليس فيه، ويحب أن يطبل له المدّاحون بما لم يفعل، هو جدير بأن يراجع نفسه، فقد يكون مريضاً نفسياً ؛ لأنّ النفوس الطبيعية ترفض أن تُمدح بما تعرف أنه كذب، وأنه مخالف للحقيقة، والواقع. بل إنّ النفوس الكبيرة تأبي أن تمدح بما هو فيها حقيقة، وبما هي موصوفة به، ومشهورة بعمله، ومع ذلك يريدون الجزاء والشكر من الله تعالى، ويتركون المجال لأعمالهم العظيمة أن تتحدث عنهم. فلنستعمل المدح في المواضع التي يحسن فيها، ويكون له أثر جميل فيها، ولنبتعد عن المدح الكاذب الذي يضر بالمادح والممدوح، وقد تتعدّى آثاره إلى الضرر بالمجتمع، وفوق ذلك أنه مذموم في شريعتنا الإسلامية التي نعتز بالتمسُّك بها.