يتميز الفقه الإسلامي بواقعية الملاءمة بين التشريع والتطبيق؛ لأن مصدره هو الوحي من العالِم بظروف البشر ومتغيرات أحوالهم وما يصلحهم، لذا فمن المؤكد أن الفقه الإسلامي يستوعب الحوادث والتطورات الزمنية والموضوعية، أي كل ما يتعلق بالفكر وجميع ما يتصل بمعاش الناس. كما لم يحرم الفقه الإسلامي في سائر عصوره من بزوغ نجم فقهاء رزقهم الله عز وجل تميزاً في مادة وأس هذا الفقه سعة فهم لموضوعه واستيعاب إدراك لدقائقه، وشمول إحاطة بمراميه وغاياته، فلعل ذلك يفسر كثرة كنوز الثروة الفقهية وتجدد اكتشافها في كل جيل. وفي جانب آخر يقال إن الاكتشافات الطبية التي تتجدد دوماً ليست وليدة اليوم أو هذا العصر؛ فمنذ عُرِف الإنسان عَرف الأسقام والأمراض وتعلم كيف يداويها بحسب قدراته والمتاحات أمامه، وربما لا أبعد النجعة إذا قلتُ: إن معطيات البيئة حوله لا سيما الأعشاب ظلت - ولا تزال - المادة الأولى للعلاج المادي للأمراض وإنما طرأت تطورات علاجية تتعلق بالكيفية التي تناسب حاله والمتاحات أمامه في كل عصر. وهنا يولد سؤال والسؤال يلد عدة أسئلة: ما طبيعة المسئولية الطبية؟ وما أبعادها؟ وما ثمارها؟ وما تكييفها الفقهي الشرعي؟ من المؤكد إن إدراك مفهوم وحقيقة المسئولية الطبية يعدّ ضرورة ملحّة في عصرنا، فنجدها تنطلق في المجتمع غير المسلم من بواعث مهْنية عند البعض وإنسانية عند البعض الآخر أما في المجتمع المسلم فتنطلق من بواعث شرعية محروسة بزواجر تحميها من القصور في الفهم أو السلوك في ساحة تموج بالإمكانات وتتنازعها الجواذب. والطريق إلى هذه البواعث لا يُسلك إلا بالتكييف الفقهي الصحيح للقضايا والمستجدات المعاصرة، فليس إلا الفقهاء لهذه المهمة، والمنهج الأسدّ - في رأيي- هو تشكيل بُنى فكرية قادرة على تحفيز الإنسان معرفياً نحو تشغيل عقله وتفعيل مدركاته بالعلم الشرعي والفهم الصحيح لمقاصد النصوص؛ فالظروف المعاصرة برغم ما فيها من غلبة للجوانب المادية وقصور في بعض الجوانب الأخلاقية مهيِّئة لقبول هذا المنهج المعرفي وليست طاردة له كما قد يراه ذوو النظر المتعجل والأفق الضيق؛ لأن فقدان العناصر الإيجابية للبقاء يعني في الجانب الآخر تشغيل فطرة المقاومة عند الإنسان والاستعداد للبحث عن ما يروي ظمأه ويشبع نهمه بما يوافق فطرته السوية وهذا هو ما يحمله هذا المنهج المعرفي المتوازن. وفي ضوء هذه الإلماحات تأتي سلسلة دراسات وأبحاث معاصرة التي أصدرها معالي الشيخ الدكتور قيس بن محمد آل الشيخ مبارك عضو هيئة كبار العلماء السعودية وأستاذ الفقه في جامعة الملك فيصل بالأحساء، ونشرتها دار الإيمان - بالإمارات العربية المتحدة 2013م، وقد ضمت ثمانية مجلدات أنيقة الطباعة رائعة السبك محكمة المعالجة الفقهية المنهجية، كان الجزء الأول منها عن (المسئولية الطبية) والثاني عن (العقد الطبي) في حين جال في الجزء الثالث بمقالات وخواطر ذات صبغة فقهية موجزة وميسرة التناول أما الجزء الرابع فخصصه للتعمق في (آراء القاضي عبدالوهاب البغدادي الأصولية) معرجاً في الجزء الخامس على (الرشوة أركانها وطرق إثباتها) ودارساً في الجزء السادس دراسة مستفيضة (خيار المجلس) ومتناولاً في الجزء السابع (الرقية تعريفها وصفتها) مختتما سلسلته بما لفضيلته من فتاوى العصر في توازنه ومستجداته. وفي هذه السطور وبما يسمح به حيز الإبداء حسبي إضاءات عن الجزئين الأولين من هذه السلسلة أجزم أنها لا تسمن ولا تغني من جوع لعمل علمي محكم بحجم هذه السلسلة. فعن المسئولية الطبية تناول فضيلته بتكييف فقهي وأصولي تعريف المسئولية الطبية ومشروعيتها وتعريف العمل الطبي ومراحله ومشروعية الطب وفضله وموجبات المسئولية شارحاً مفهوم العمد والخطأ في الطب في ضوء أصول المهنة الطبية وأنواعها وشروط اعتبارها وأحكام مخالفتها فقهياً وحكم ضمان الطبيب الغارّ وشروط وعلة إسقاط المسؤولية في ضوء معرفة الطبيب وأهليته والإذن له بالعلاج وعدم التعدي وما إلى ذلك مخصصاً الجزء الأخيرة ل( إثبات الموجبات والآثار المترتبة عليها) وفي رأيي أن هذا الباب هو ذروة سنام التكييف الفقهي لموضوعات الكتاب حيث أشار إلى مشروعية الإثبات وحكم التداعي بين الطبيب والمريض مكيفاً بمعالجة فقهية منهجية وسائل الإثبات والإقرار والشهادة والكتابة وأثر العمد والخطأ ومخالفة أصول المهنة أو الجهل بها أو تخلف إذن المريض أو ولي أمر المسلمين (الرخصة الطبية) وأثر الغرور (الغَرر) أو رفض العلاج أو العلاجات المحرمة وأثر إذن المريض للطبيب بقتله أو ما دون القتل، وأثر إفشاء ما تدعو الضرورة لستره من أسرار المريض وكذا ستر ما تدعو الضرورة لكشفه. أما (العقد الطبي) أي أحكام الإذن الطبي الصادر من المريض للطبيب بمعالجته فيؤكد فيه فضيلته أن ما بين المريض والطبيب عقد يأخذ الأحكام الفقهية المعتادة للعقود وله آثارها المترتبة. فتحدث عن تعريف الإذن الطبي ومصدره وأنواعه وأقسامه وأركانه مفصلاً القول في إذن المريض وإذن الشارع وإذن ولي الأمر (الرخصة الطبية) بالنظر إلى منشأ ومدى كل إذن، كما تحدث عن طبيعة العقد الطبي وشروطه بالنظر إلى النظريات الفقهية وحكم كل نوع وصيغة الإذن وأهلية الآذن (المريض) والولاية على المريض وأهميتها وأقسامها ومراتبها وولاية المرأة على نفسها وعلى غيرها بحكم الحضانة ومدى هذه الولاية، وضبط المؤلف بالقواعد الفقهية والتكييف المنهجي ما يتعلق بالمأذون له (الطبيب) من حيث تخصصه العلاجي والتزاماته تجاه المريض ومسئوليته كما تناول فسخ عقد الإجارة على العمل الطبي من حيث اللزوم وللأسباب العادية أو لأسباب طارئة، موضحاً التكييف الفقهي للفرق بين الفسخ من قبل المريض والفسخ من قبل الطبيب. وفي جملة القول فإن المقصود هو التشويق لقراءة هذا العمل العلمي الرائع في موضوعه وفي منهجه وفي معالجته وفي صياغته بأسلوب مذهل في عسف وترويض الكلمات والجمل كي يستخلص منها القارئ معاني تدني إليه المفهوم والنتيجة من أيسر طريق. ويجدر التنويه إلى أن المؤلف التزم في تأليفه بما لدى المذاهب الفقهية الأربعة السنية المشهورة غير أن أمهات الكتب المالكية كان لها النصيب الأوفر بحكم ذائقة المؤلف الفقهية وحسناً فعل بإخراج كنوزها في هذه القضية المعاصرة المهمة. وبالله التوفيق.