أدركت في تجربتي الفكرية مرحلتين؛ إحداهما في صباي المبكر، وكانت سهلة سمحة لطيفة ميسرة أليفة وليفة قريبة من النفس، لا فرقة فيها ولا إبعاد أو تصنيف أو كراهية أو طردا ويأسا من رحمة الله؛ وتلك كانت في فترة سيادة الروح السلفية الوسطية المعتدلة على مجتمعنا التي كانت تتساوق مع تطور الحياة، وقد تتمانع قليلا أمام الجديد ثم تذعن بعد أن تقتنع وترى الآثار الحسنة له، أو أنه لا مفر من قبوله بحسنه وسيئه على أمل أن تتفاعل مع الإيجابي وتسعى إلى إبانة خطر وقبح السلبي منه! تلك كانت الفترة الرائعة المتماسكة المتقاربة بين فئات مجتمعنا قبل التسعينيات الهجرية من القرن الماضي! كان الناس يألف بعضهم بعضا، صالحهم وطالحهم! فالصالح يغض الطرف عن الطالح؛ آملا أن يمحضه النصيحة على انفراد في الوقت المناسب، فكان المجلس الكبير في المناسبات وغيرها يضم أشتاتا من الناس، وأعمارا ومستويات متفاوتة، فيهم التقي الورع الزاهد الذي قد يكون إماما لمسجد أو مؤذنا أو منتسبا إلى الحسبة أو متبحرا في علوم الشريعة أو قاضيا له منزلته الاجتماعية العالية، وفيهم المتساهل المقصر الذي لا يخفى ذلك منه على من حوله؛ ولكن المقصر لا يميز بتعامل يبعده عن مجالس الحي أو يزري به أو يشهر بسوء تقصيره؛ بل يدعى له بالصلاح والهداية ويتقرب إليه الكبار والحكماء ورجال الحي أو القبيلة لاحتضانه؛ لا تنفيره! لم يكن بيننا قبل التسعينيات الهجرية من يمكن أن يطلق عليه لقب أيدلوجي أو حزبي أو أي تصنيف آخر؛ إلا نفراً ضئيلا جدا ينتسب إلى التيارات السياسية أكثر من وعيه بعمقها الفكري أو العقدي؛ كالقومية أو البعثية أو الشيوعية وغيرها؛ تلك التي كان لها صخب وضجيج في الستينيات الميلادية، بيد أن المنتسبين إليها من الشبان المندفعين الذين أثرت عليهم الدعايات السياسية لم يكونوا تيارات اجتماعية أو فكرية طاغية أو مهيمنة، ولم يسعوا إلى أطر الناس على ما ذهبوا إليه أطرا؛ كما تجرأت وفعلت ذلك الجماعات الدينية المؤدلجة بوسائل وحيل مختلفة لاستقطاب الأتباع أو لتركيع المجتمع والسلطة بالتذاكي والبراجماتية والتلون؛ كالإخوان المسلمين، أو بالعنف والإرهاب كالسلفية الجهادية والقاعدة ومن لف لفها. كان المجتمع كله ولله الحمد مسلما، والشبان فيهم كما هو معتاد من هو متدين بوعي شرعي، أو متدين بتربية منزلية حسنة، وفيهم من هو متدين ويميل إلى الأخذ بالجديد بما لا يخل بتدينه؛ كاقتناء وسائل العصر الحديثة - آنذاك - الراديو والتلفزيون وقراءة المجلات والجرائد والسفر إلى الخارج للدراسة أو للسياحة، وغيرها. أما المرحلة الثانية فقد كانت مطلع التسعينيات الهجرية؛ كانت بداية أولى لتحول مجتمعنا من سنوات التأسيس والتكوين إلى اكتساب تجارب المجتمعات العربية الفكرية والسياسية، وكان الأقرب والأكثر تأثيرا ما كان مصطبغا منها بصبغة دينية كجماعة الإخوان المسلمين الذين وفدوا على بلادنا منتصف الثمانينيات الهجرية من القرن الماضي بعد اضطهادهم في مصر؛ فاستقبلهم مجتمعنا أحسن استقبال، وأكرمهم أيما إكرام، وأسند إليهم مسئوليات كبيرة في التخطيط للتعليم ووضع المناهج والتدريس والإعلام وغيره بما يتفق والإمكانات العلمية والثقافية العالية لدى كثيرين منهم؛ ولكنهم استغلوا ثقة السلطة وطيبة المجتمع وترحيبه بالمتدينين أو من يظهرون مشاعر دينية، وشرعوا في بناء التنظيم الذي دمر هناك في مصر؛ ليولد جيلا جديدا من السعوديين يحمل الفكر نفسه الذي أخفق أو كاد في بيئته الأولى! فتلقفوا من كان في سني أو أكبر بقليل، وبدؤوا في تكوين مفهوم فرز المجتمع وتقسيمه بين ما هو إسلامي وغير إسلامي؛ فتولدت في مجتمعنا مفهومات جديدة لم نكن نسمع بها؛ كالمجتمع المسلم، والجاهلي، والكتاب والشريط والمجلة والمخيم والجامعة والأدب الإسلامي! وبدأ المجتمع يتفقد نفسه ويتساءل : هل تنطبق شروط الإسلامية عليه؟! يتبع