تزخر بلادنا بالمواقع التي يجهل الكثيرون منا قيمتها الآثارية. ومن هذه المواقع محافظة العلا التي أُتيح لي زيارتها مؤخراً مع بعض الأصدقاء حيث قضينا ثلاثة أيام في المحافظة زرنا خلالها العديد من المواقع ولم نتمكن - رغم برنامجنا الحافل الطويل - من زيارة كل المعالم الجديرة بالزيارة! حقيقة الأمر أن العلا متحفٌ طبيعي، فهي بالإضافة إلى الآثار الموغلة في القدم والتي يعود تاريخ بعضها إلى ما قبل الميلاد بقرون عديدة تضم مواقع أثرية من العهد الإسلامي الممتد منذ فجر الإسلام حتى الدولة السعودية. لقد تعاقب على العلا دولٌ عديدة مثل ديدان ولحيان ومعين والأنباط وتركت كل دولة من هذه الدول آثارها ونقوشها ومنحوتاتها شاهدة على الأهمية الكبيرة لهذه المنطقة. ومن المؤكد أن الموقع الجغرافي للعلا وما تتمتع به من موارد مائية وزراعية هي التي جعلتها منطقة جاذبة للدول والممالك التي قامت على ترابها، فموقع العلا الجغرافي جعل منها ملتقى للقوافل التجارية القادمة من بلاد الشام والحجاز واليمن، بل ومن إفريقيا وآسيا، وقد أدى كل ذلك إلى ازدهار المنطقة عبر العصور وتنافس الممالك المختلفة في الهيمنة عليها وقيام ممالك مستقلة على أرضها ذات امتدادات بعيدة. رغم كل ما أعرفه وزملائي عن العلا، فقد كانت دهشتنا كبيرة ونحن نتجول بين آثارها. شاهدنا مدائن صالح بكل ما تزخر به من آثار الحضارات الغابرة التي خلدت ذكرها من خلال المنحوتات والنقوش والكتابات التي قاومت عوامل الفناء على مدى القرون الطويلة. رأينا في مدائن صالح المقابر المنحوتة على الواجهات الصخرية، وهي مقابر شامخة تبدو كما لو أنها قصور تعج بالحياة! ومن المذهل تلك الدقة التي نُحتت بها المقابر، والدقة في التوثيق حيث يوجد في أعلى المداخل كتابات تتضمن اسم صاحب المقبرة وتاريخ نحتها واسم النحات، بالإضافة إلى معلومات أخرى!. وزرنا القرية التراثية التي يعود تاريخها إلى القرن السابع الهجري (الثالث عشر الميلادي)، وهي عبارة عن كتلة من المباني المتراصّة من المنازل التي تخترقها أزقة ضيقة ويحيط بها سور لحمايتها ليلاً من أي اعتداء، وقد تميزت تلك المنازل بطرازها المعماري الذي يجمع بين ترشيد استخدام المساحة وأناقة التشكيل البنائي، كما تضم القرية معالم عديدة مثل الأسواق القديمة وعيون الماء والمساجد وغيرها، وقد قامت الهيئة العامة للسياحة والآثار بترميم معالم القرية بشكل جذاب وصيانتها والمحافظة عليها. ضمن معالم القرية التراثية كانت هناك قلعة موسى بن نصير والمزولة الشمسية التي تُبيّن الفصول والأوقات ويسمونها «الطنطورة» وبعض المساجد القديمة.. ومن المدهش أن عدد العيون المائية في القرية يصل إلى ثمانين عيناً، ومنها «عين تدعل» الشهيرة التي يعود تاريخها إلى ما قبل الميلاد!. يُوجد في العلا متحفٌ أنيق يضم الكثير من الآثار والصور وتشرف عليه الهيئة العامة للسياحة والآثار، وقد شرح لنا الأستاذ مطلق بن سليمان المطلق مدير مكتب الهيئة بالعلا عن محتويات المتحف، كما رافقنا مشكوراً في التجوال على آثار العلا خلال أيام الرحلة.. ومن حسن الحظ أن أحد أعضاء الرحلة، وهو الدكتور خليل المعيقل مدير جامعة حائل، متخصص في الآثار وكان يشرح لنا طوال أيام الرحلة عن آثار المنطقة. لا يمكن الإحاطة بجميع ما شاهدناه في تلك الرحلة، بما في ذلك محطات سكة حديد الحجاز التي بُنيتْ في العهد العثماني وغيرها من المعالم العديدة، ولكن لا بد من الإشارة إلى الإمكانيات السياحية الطبيعية الكبيرة التي تملكها العلا بما حباها الله به من تشكيلات صخرية عجيبة تتداخل مع بساتين النخيل وكثبان الرمال. محافظة العلا كنز من الإمكانات السياحية والآثارية، وما تحتاج إليه هو استثمار هذه الإمكانيات وإقامة المنشآت السياحية التي تجذب الزوار.. وفي الوقت الحاضر تبذل الهيئة العامة للسياحة جهوداً كبيرة وواضحة، ولكن تبقى هناك مساحة واسعة جداً للتطوير وذلك بتضافر جهود الهيئة مع القطاع الخاص.