كانت الرياض ومثلها بقية مدن المملكة مطلع التسعينيات الهجرية من القرن الماضي تتأهب لصناعة جيل جديد مختلف؛ هو ما عرف ب جيل «الصحوة» يمتاح دروسه الفكرية من ثلاث مدارس؛ هي: المدرسة السلفية التقليدية الموروثة الممتدة من حركة الإحياء التي نهض بها الشيخ ابن عبد الوهاب، والتبليغيون، وهي جماعة هندية المنشأ تتداخل في بنيتها الفكرية ثلاثة عناصر جلية كل الجلاء بتوظيف ذكي يتراوح بين الخفاء والعلن حسب الحالة؛ ففيها نزعة سلفية غير عميقة، ونزعة صوفية تكاد تكون هي الأساس، وميل إلى مفهومات فلسفية منتزعة من الثقافتين الهندية والفارسية تتمثل في التقشف والترحل وتعميق مبدأ الالتفاف حول الجماعة «الأحباب»! أما المدرسة الثالثة التي كانت تضع بذورها الأولى في التربة السعودية أواخر الثمانينيات الهجرية ومطلع التسعينيات فقد كانت مدرسة تفوق سابقتها التبليغية بعدا عما وقر في وجدان المجتمع السعودي؛ وهي جماعة الإخوان المسلمين؛ ولكنها هي الأكثر حداثة في الرؤية الفكرية والأدق تنظيما في الجانب السياسي والحركي؛ ولأنها كذلك وخشية من إنكار ما تثيره الجماعة بين من تستقطبهم من الشبان في خلواتها ومخيماتها ولئلا تتصادم مع مجتمع ألف الموروث من المفهومات السلفية؛ فقد سعى أقطابها القادمون إلى المملكة مطاردة وتهجيرا من مصر؛ سعوا إلى العمل بذكاء على إلباس رؤى الجماعة رداء شفيفا من التفسيرات السلفية المتسامحة؛ ليشكل الفكر الإخواني مع الموروث السلفي جيلا جديدا هجينا هو خليط مركب من المدرستين. أما السلفية الوسطية المعتدلة فلم تكن تثير عواصف أو تتخذ مواقف حادة من مستجدات الحياة تمنعها من أن تسير جنبا إلى جنب مع المؤسسة السياسية؛ حتى وإن أصدر بعض الغلاة من المنتمين إلى السلفية التقليدية رؤية حادة ناقدة مواجهة أمرا جديدا حادثا؛ فإن التيار السلفي المعتدل يبذل جهدا فائقا في تقويم الشطط وتشذيب النافر من الرؤى وإعادة المغالي إلى جادة الاعتدال والاستواء؛ ومثال ذلك ما اتخذه بعض الغلاة من رفض مطلق لكل جديد في بدايات تكوين الدولة السعودية الثالثة على يد الملك عبد العزيز - رحمه الله - عام 1349ه كقضية لباس العساكر، والتلغراف، والقناصل الأجانب، وغيرها؛ وقد حسم الملك المؤسس تلك المواقف الحدية بشجاعة وعزيمة ودون تراخ في معركة السبلة بعد حوار امتد شهرين متكئا على دعم المدرسة السلفية الوسطية، ومن الطبعي أن يحدث الجديد موجة أخرى من الرفض وعدم القبول تغذيها مخاوف قلقة ساكنة في الوجدان الشعبي من اضمحلال الذات وفقدان الهوية؛ وهو الأمر الذي اتخذته الفئات المحافظة المتشددة في السلفية التقليدية تجاه تعليم البنات أواخر السبعينيات الهجرية من القرن الماضي في عهد الملك سعود، ثم هو الرفض نفسه الذي اتخذه التشدد أيضا تجاه التلفزيون عام 1385ه، وقد تم حسم الموقف بحزم أيضا في القضيتين، وهكذا تخبو معارضة الجديد عقدا من الزمن؛ ولكنها لا تلبث إلا وتبدأ في الفوران من جديد تجاه الحادث غير المألوف من أمور الحياة بشحن من النسق التقليدي الساكن في الوجدان الشعبي القلق من ذوبان الذات واضمحلالها في موجات الجديد؛ ولهذا فقد ضجت الساحة الفكرية مطلع التسعينيات الهجرية ومنتصفها مع طفرة التنمية الأولى بخطابات فكرية حادة أقرب ما تكون إلى العنف مشكلة اتجاها جديدا عرف بالسلفية الجهادية، وهي أعلى صور مقاومة التحديث ورفض الجديد، وقد ظهر ذلك جليا في اعتصام جماعة أهل الحديث، أو جماعة جهيمان في الحرم المكي الشريف صبيحة اليوم الأول من شهر المحرم من عام 1400ه في حادثة تنبئ عن مدى تغلغل المفهومات المنغلقة للنصوص وتسييرها إلى غير وجهتها مترافقا ذلك مع عصبيات قبلية واعتزاز عميق بالتقاليد ورفض مطلق لكل جديد، وقد حسم أمر الجماعة بحزم وصرامة بمؤازرة من السلفية الوسطية. وهكذا يتفوق الاتجاه السلفي المعتدل ويقف جنبا إلى جنب مع الاتجاه السياسي في مواجهة ما نفر وشذ من اتجاهات غالية متطرفة.