لعلي ضمن الكثير من عشاق المقاهي للترويح عن النفس, وهذا ما نراه عند شعوب الوطن العربي, فتلك ملتقى أطياف الشعوب، وخصوصاً أهل الفكر والأدب والفن, وهذه عادة اشتهرت بها عواصم عربية, مثل مصر في مقاهي «ريش» و»الفيشاوي» و»العمدة « و»الحرافيش»، ومقاهي سوريا في «الهافانا» و»النوفرة» و»الندوة» و»الروضة»، مقاه عربية مشهورة يؤمها كبار المثقفين والصحفيين والأدباء من الرعيل الأول, أمثال طه حسين ونجيب محفوظ وتوفيق الحكيم وكامل الشناوي, وغيرهم من أجيال لاحقة.. فكم من فكرة أثمرت عن إصدار كتاب أو مجلة من خلال هذه المقاهي, ناهيك عما يدور بداخلها من نقاش حيال مجمل الشؤون السياسية والاقتصادية والاجتماعية؛ لنرى في أحيان كثيرة انعكاس هذه المداولات والحوارات في الشأن العام، لتدبج في مقالات مفيدة للمزيد من حصيلة التثقيف والوعي الاجتماعي. فهذه ميزة جميلة. وهناك ميزة أخرى للترويح عن النفس والتأمل بشؤون الحياة. ولعل الدول الخليجية في السنوات الأخيرة سلكت طريق المقاهي، لكنها بطريقة ترفيهية مغايرة.. غلب عليها طابع العالم الكروي، حينما وضعت العديد من أجهزة تلفزة الديجيتال ذات الشاشات الكبيرة المفسدة لذائقة الإيناس بالمكان لناشدي الهدوء والنقاش. وهذه الحال قد تكون في معظم المقاهي إلا فيما ندر, حينما أبقى بعض أصحاب مقاهٍ معينة على طابع المقهى الهادئ البعيد عن الضجيج، وإن كان ثمة تلفاز صغير، لا يشكِّل أي صخب, وُضع في مكان قصي لمن أراد متابعة خبر طارئ أو نشرة إخبارية, أو ندوة. ولكن تلك المقاهي الهادئة ضاقت ذرعاً بالزحف العمراني بأبراجه الفارهة، إلا أنها بقت على طابعها الجميل وفق طرازها الهندسي المتماهي مع المنظر العام، وهو ما يعشقه الزبائن، وخصوصاً طالبي الدعة والراحة. أما ما يعشقه الشباب فهو الصخب والضجيج وعالم الكرة والتسلية!! إلا أن هناك من جيل الأمس من يعشق مقاهي مخصوصة.. هنا في أحد المقاهي، وهو ما يشدُّ الرحال إليه كل ليلة جيل الأمس, ذلك المقهى الذي أطلق عليه وفق المصطلح الشعبي (مقهى هموم) تيمناً بما يدور داخله من أمور اجتماعية، كانت هي محور أحاديث جمة عما تتناقله الفضائيات والصحافة المحلية والعربية، ويتم تناوله بالتحليل وفق وجهات نظر مختلفة، بين طرفَيْن أو أكثر. هنا سأنقل لكم حواراً دار بين شيخ مسن مثقف ثقافة ذاتية، ليست موسومة بشهادة عالية مزيفة، وشاب جامعي حديث عهد بالحياة، لكنه قارئ جيد للأحداث المحلية والعربية!! في أحد المقاهي المطلة على البحر الأحمر، وهو ما أسماه جيل الأمس (مقهى الهموم)؛ لأن ما يُتَدَاول بين الصحب هو مجرد فضفضة؛ ومن ثم يسري الساري وهو مثقل بالهموم، لكنه الهذر المتمثل بطبيعة الإنسان، وبخاصة الإنسان العربي، ففي هذه الحالة قد يكون الهذر مفيداً حيناً، وحيناً آخر غير مفيد. أريد أن أنقل لكم بعضاً منه فيما هو مستباح، وأحجم عن غير ما هو مباح، وذلك في ثلاث حلقات قادمة!