وصف حكماء العرب العقل بأنه «النظر في عواقب الأمور» ..، وهو عند بعضهم: «الوقوف عند مقادير الأمور»، يمثّلها القول، والفعل عند العاقل وفق تلك الرؤية.. أما آخرون من المتكلمين فقد رأوا في العقل بلوغَ المرءِ علوماً إن حصل عليها وافته موجبات التكليف، وهو بذلك تتحقق له الرقابة على الشهوات الذاتية. وإني أذهب إلى هذا، حيث أرى أن مدارك المرء ما اتسعت فيه فإنه لا يقف عند حد في الكسب المعرفي، والتقليب الفاحص لكل ما يمر به، حتى يستوي فيه عقلُه راجحاً يميز بين الصواب، والخطأ، وذلك التمييز هو عقلٌ للشهوات الذاتية، يقيم للمرء ضوابطه، ويفسح لرؤيته المجال البعيد لاحتواء كل موقف يمر به، فيكون فضاء تفكيره منطلقاً لحكمته.. على أن هناك من رأى أن العقل من «عقل نفسه عن المحارم»، ولذلك «لم يصح وصف الله تعالى به».. وفي نطاق البشر أرى تضييقاً عند وقف العقل عند حدود ضبط المحارم،كونها جزءاً من شهوات النفس البشرية، تتدرج من الميل للرغبات التي تؤدي لفعل محرم شرعاً، ولتلك السلوكية التي تتدرج فيها الحدود، فكلها سواء في وخامة عواقبها على مستوى الفرد وذاته، والفرد وربه، والفرد والآخر من نوعه.. وفيها السرقة، والظلم، وسلب الحق.. والكذب،.. ونحو ذلك من السلوك الذي هو نتيجة شهوة النفس، والميل معها لكفة انتصارها على ضابط التمييز..، ومن ثم الامتناع.. ولأن من العقل أن يستحث الحكماء في الناس همم الإدراك، والرغبة في الاكتساب الموجب، وتوسيع المدارك بالمعرفة، والخبرات بالدربة لنيل مهارة التمييز، ومن ثم التمكين من الانتصار على غريزة الشهوة التي هي مدار خسائر البشر على المستويات الشخصية، والاجتماعية، والإنسانية قاطبة..، لكنهم أي الحكماء قلة، أكثرهم مهمشون.. بضاعتهم ترد إليهم..، وقليلهم تجدهم كالمصارع في وغى، أو كالسابح في لجج..، صامدون دون تيارات الزمن وأصحابه..، يدركون أن البقاء للأصلح الأنفع... تجدهم بين المعلمين، والمفكرين، والأدباء، والمربين... وحيث تصدر أقوالهم..، وتبث أنفاسهم..! مع أن الناس الآن تفتقد للذين ينشدون فيهم القوة على أنفسهم، ويفسحون لهم مجالاً للتفكير، ويزوّدونهم ببوصلات نحو دروب النور، ونبل المقاصد، وطهر السلوك، ورحابة السلام الفكري، والنفسي.. ويبعثون لهم ما في مناجم الحياة من ثراء الخير، وإبداع الجمال.. ومع هذا الشح في الحكمة النافعة بين الناس لانشغال الناس كثيراً عنها، فإن الإنسان انتصرت فيه شهواته على مداركه، وخفت فيه بريق الضوابط، ووهنت قدرة التمييز..، وانشغل بها بعيداً عن الحكمة والحكماء.. فعقله لا يفكر إلا وفق شهواته المال والثراء، والظهور والتكسّب، والتنابز والتفاخر، وإثبات الذات ودحر الآخر، والمقارنة والمخالفة، والتكتل والتحزّب.. وركن الكامن في عقله من المدارك بعيداً عن محكات الحكمة، ومناهل الحكماء العقلاء.. ويبدو أن الأكثرية الغالبة من الناس هم الآن لم يعودوا بحاجة للعقلاء، فأغلبهم لا يتوخون عاقلاً يمنحهم الحكمة، ويدلهم إليها، إذ إن وجد بينهم، فإنهم يرونه يحلّق خارج السرب..، مع أنه الوقت الملحة فيه الحاجة لضوابط العقل، وتمييز المدارك، ومصباح البوصلة..!!